الاقتصاد الفرنسي: تحليل مقارن في ضوء الاحتجاجات

د. أحمد ابريهي علي

مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

وضعت احتجاجات ذوي السترات الصفراء الإقتصاد الفرنسي في دائرة اهتمام متزايد، وقد يتبادر الى الذهن ان فرنسا قد تختلف إقتصاديا عن نظيراتها من الدول المتقدمة اختلافا جوهريا، او واجهت مشكلات فريدة. وجاءت هذه المقالة نتيجة لفحص خصائص رئيسة في الإقتصاد الفرنسي بالمقارنة مع المانيا وبريطانيا واليابان اضافة الى الولايات المتحدة. ولا يتجاوز القصد محاولة لتجميع وتنسيق حقائق تعبر عنها البيانات قد تساعد على فهم أفضل للحراك السياسي الحالي والمحتمل.

 النمو الإقتصادي الواطئ او الركود:

 منذ منتصف سبعينات القرن العشرين تباطأت وتائر النمو في الدول المتقدمة، وفرنسا بالذات، وانخفضت كثيرا بعد الأزمة المالية الأخيرة. وفي نفس الوقت تتزايد وتتنوع مطالب السكان في تحسين العيش وتطلعاتهم نحو رفاه اعلى. ومع ضعف القدرة على تطوير مجموع الإمكانية الإقتصادية تتقلص مساحة الاختيار والمناورة.

 ولإيضاح ما تقدم، للمدة 1971 - 2017 كان متوسط معدل النمو السنوي في الناتج المحلي الإجمالي بالمائة: فرنسا 1.80؛ المانيا2.01؛ بريطانيا 1.85؛ اليابان 2.07؛ الولايات المتحدة 2.80. وفي سنوات الأزمة الأخيرة وما بعدها 2008 – 2017: فرنسا 0.71؛ المانيا 1.20؛ بريطانيا 1.11؛ اليابان 0.54؛ الولايات المتحدة الأمريكية 1.42.

 وإذا ما أغفل التحليل السياسي هذه الحقائق الصلبة لا يبتعد جوهريا عن الخرافة، لأن نطاق الإمكانية الكلية في تحسين معيشة الناس، في فرنسا مثلا، في العقد الماضي، والتي يرسمها النمو الإقتصادي دون 1 بالمائة سنويا وعند طرح نسبة التغير السنوي في السكان تصبح زيادة الدخل بالمتوسط للفرد سنويا اقل من ثلث الواحد بالمائة. ولذا فإن الاستجابة للضغوط، دون التمكن من زيادة النمو الإقتصادي، تقتضي تغييرا عميقا في آليات التصرف بالموارد، وقد ينطوي ايضا على إعادة توزيع تثير ردود افعال اخرى اشد نقضا لنظام السياسة والحقوق من استمرار الوضع الراهن في الضرائب والإنفاق.

 وتقريبا بقي التناسب الإقتصادي مستقرا بين الدول المتقدمة، بدليل ان متوسط الناتج المحلي للفرد بالدولار الدولي متعادل القوة الشرائية نسبة الى الولايات المتحدة الأمريكية عام 2017 بالمائة لأقرب وحدة مئوية: فرنسا 72؛ المانيا 85؛ بريطانيا 73؛ اليابان 73. وأعلى ما وصل اليه في السنوات 1991 – 2016 نسبة الى الولايات المتحدة بالمائة: فرنسا 75؛ المانيا 86؛ بريطانيا 76؛ اليابان 85. واليابان هي الأكثر تراجعا مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية.

 ويلاحظ استمرار الفجوة بين فرنسا والولايات المتحدة، رغم ان تلك الدول جميعها تخلفت عن مستويات الرفاه في دول متقدمة صغيرة الحجم السكاني مثل السويد والنروج والدانمارك... وتقدم المجموعة الأخيرة من الدول بصفة مستمرة نماذج يحتذى بها في رفاه السكان والعناية بالعدالة الاجتماعية.

 ولا شك ان النمو المنخفض من اسباب القلق في فرنسا ومن الموضوعات الرئيسة لدعوات وبرامج الإصلاح في عهد هولاند كما في العهد الحالي. وربما كان الإخفاق في اخراج الإقتصاد الفرنسي من شراك الأزمة من الأسباب التي عبّرت عنها صناديق الاقتراع، وقادت الى فوز ماكرون بديلا عن الزعامات التقليدية. ان شعار ماكرون " الى الأمام " في مضمونه يريد تعويض فرنسا عن خسائر النمو لعقدين من الزمن. ويرى مؤيدوه انه يقصد تشجيع المبادرات الريادية في الأعمالEntrepreneurship والابتكار والتطوير، الى جانب حماية الضعفاء من الآثار السلبية للعولمة.

 ويفسر البعض المشكلة الإقتصادية لفرنسا بانخفاض نمو الإنتاجية وتدني الكفاءة وانخفاض التنافسية تبعا لذلك، وايضا يطرحون تخفيف حاكمية القواعد التنظيمية للدولة Regulations ويمجّدون إجراءات تاتشر المعروفة في بريطانيا، ويقترحون اقتفاء اثرها لمعالجة وضع الإقتصاد الفرنسي. وان تلك الأطروحة قد انتفعت منها المانيا بعد التوحيد، في رأيهم، وعند الاطلاع على مثل هذه الأنساق من التفكير تكون مخاوف الوسط واليسار من تصاعد قوة اليمين في محلها. وقد ظهرت بالفعل مشاريع قرارات لدى الرئيس ماكرون تتساوق مع اتجاه تقليص النطاق الإقتصادي للدولة. ومن جهة اخرى توسيع حرية الشركات في مساومة العمال وتقليل المدفوعات للمستغنى عنهم وإجراءات نحو تقوية الإدارة... او ما يمكن وصفه بتغيير قواعد العمل تدريجيا. والذي يشجع هذا الاتجاه ضعف تنظيمات العمال وأنها تستوعب فقط ما لا يزيد عن 10 بالمائة منهم، فجاءت ردود افعالهم فاترة.

 الإقتصاد الخدماتي والأموَلة:

 تمثل فرنسا خصائص إقتصاد ما بعد الصناعة على مسار يتزايد معه ثقل الإقتصاد على قاعدة من الإنتاج السلعي يتقلص دورها النسبي في توليد الدخل والتشغيل وتمويل الإنفاق العام. وتشارك بريطانيا والولايات المتحدة الامريكية هذه الخاصية. ونلاحظ بمقياس الأهمية النسبية للصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي عام 2016 بالمائة لأقرب وحدة مئوية: فرنسا 10؛ المانيا 21؛ بريطانيا 9؛ واليابان 21؛ الولايات المتحدة الأمريكية 12.

 وهذه لا بد ولها آثار كبيرة تظهر تدريجيا وربما تترتب عليها نتائج سلبية اخرى في السنوات القادمة. ولا شك ان التراجع النسبي جاء في سياق متكامل بدءا من الطلب، وجدوى الاستثمار، والقدرة التنافسية الدولية، إضافة على ضوابط البيئة وسواها. ويدل هذا التطور، ايضا، على ان بنية النشاط الإنتاجي من السلع والخدمات، وإعادة تشكلها، ليست من موضوعات السياسة الإقتصادية. ويرتبط تراجع الصناعة مع توسع الأنشطة غير السلعية (الخدمات بالمعنى الواسع) على حساب انشطة السلع: الزراعة، والتعدين والمقالع، والصناعة التحويلية، والبناء والتشييد، والكهرباء والماء وتوزيع الغاز. ويوصف هذا التحول الى ما بعد الصناعة Post Industrialبالإقتصاد الخدماتي، والذي يقترن عادة بضخامة الأصول المالية نسبة الى الأصول الحقيقية (راس المال الثابت او الموجودات الإنتاجية العينية) وتسمى هذه الظاهرة الأموَلَة Financialisation.

 وتشير بيانات التشغيل، ايضا، الى الطابع الخدماتي للإقتصاد المتقدم، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا ثم فرنسا، فالعاملون في الخدمات نسبة الى مجموع المشتغلين عام 2017 بالمائة: فرنسا 76.8؛ المانيا 71.5؛ بريطانيا 80.5؛ اليابان 70.9؛ الولايات المتحدة 79.5.

 ومع الهيمنة الخدماتية في الإقتصاد غالبا ما يصبح التوزيع الوظيفي للدخل، اي توزيع القيمة المضافة بين تعويضات العمل والفائض، اكثر تعقيدا. إذ يتداخل ريع الاحتكار او احتكار القلة والنفوذ مع التكاليف في تكوين الأسعار. إضافة الى دور الأنشطة الحكومية، وهي من مكونات الخدمات غير السوقية. ومن الضروري التذكير بأن الطابع الخدماتي يتجه اليه، تدريجيا، إقتصاد الدول الناهضة في الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل.

 والمقصود بالأصول المالية رؤوس اموال الشركات المساهمة المدرجة في البورصات، والائتمان الى القطاع الخاص واوراق الدين الحكومي، وان تعاظم قيم هذه الأصول نسبة الى الناتج السنوي هو ما يطلق عليه ظاهرة الأمولة، انفا، والتي يرتبط بها من جهة اخرى توسع اسواق المشتقات ومنها الأسواق السلعية المستقبلية واوراق التأمين على الديون وما يسمى مبادلات اسعار الفائدة واسواق المستقبل للعملات الأجنبية... وما اليها. لكن المؤشرات المعروضة هنا تنصرف الى الأصول المالية الأصلية. ومن الواضح ان الدول الخمس ومنها فرنسا بلغت فيها شوطا بعيدا، ويتزايد دورها في توزيع الدخل واعادة توزيع الثروات، رغم عدم توافر بيانات عن هذا الجانب تحت اليد، عدا ان القيمة المضافة لأنشطة الخدمات المالية تسارعت. ومن الراجح ان السيطرة على توزيع الثروات والدخول من خلال حيازة وتداول الأصول المالية في منتهى الصعوبة قياسا بالأنشطة الإنتاجية، كما ان تعاظم الأصول المالية يجعل الإقتصاد اكثر عرضة لأزمات الفقاعة وابطأ في معالجة آثارها، وهو ما بينته تجربة الأزمة الأخيرة والنمو الإقتصادي المنخفض، انفا، منذ عام 2008، ونعرض مؤشرات تبين ثقل الأصول المالية:

الرسملة، نسبة رؤوس اموال الشركات المساهمة الى الناتج المحلي الإجمالي، عام 2017 بالمائة:

فرنسا 106.5؛ المانيا 61.5؛ بريطانيا 109.4؛ اليابان 127.7؛ الولايات المتحدة 165.7. مؤشر بريطانيا يعود الى عام 2016، وكانت النسبة 120.4 عام 2013.

الائتمان المحلي من القطاع المالي المحلي، للمدة 2001 – 2017، نسبة الى الناتج المحلي الإجمالي بالمائة: فرنسا 157.7؛ المانيا 127.3؛ بريطانيا 167.5؛ اليابان 345.1؛ الولايات المتحدة الأمريكية 241.9.

 الائتمان الى القطاع الخاص نسبة الى الناتج المحلي الإجمالي عام 2017 بالمائة: فرنسا 101.6؛ المانيا 77.7؛ بريطانيا 136.2؛ اليابان 161.7؛ الولايات المتحدة 192.2. المؤشر في الولايات المتحدة يعود لعام 2016. ونلاحظ في جميع تلك المؤشرات ان فرنسا تخطت المانيا شريكتها في منظومة اليورو.

إجمالي دين الحكومة العامة الى الناتج المحلي الإجمالي عام 2017 بالمائة: فرنسا 96.8؛ المانيا 63.9؛ بريطانيا 87.5؛ اليابان 237.6؛ الولايات المتحدة 105.2.

صافي دين الحكومة العامة الى الناتج المحلي الإجمالي عام 2017 بالمائة: فرنسا 87.5؛ المانيا 44.9؛ بريطانيا 77.9؛ اليابان 154.9؛ الولايات المتحدة 78.8. ويظهر ان فرنسا موقعها الوسط في ثقل المديونية الحكومية والتي وصلت في اليابان الى مستويات مذهلة. وفي هذه ايضا جاءت فرنسا اعلى من المانيا.

 من المتوقع ان يرتفع عجز الموازنة العامة في فرنسا للعام القادم 2019 الى حوالي 4 بالمائة متجاوزا الحد المتفق عليه في الاتحاد الأوربي وهو 3 بالمائة بمعنى ان الدين الحكومي مرشح للزيادة.

 الديموغرافيا والتشغيل:

 ويبدو ان فرنسا تعاني من البطالة اكثر من نظيراتها، والبطالة من العوامل المحرضة على السخط والاحتجاج، وبمقياس منظمة العمل الدولية كان المتوسط السنوي لنسب البطالة في المدة 1991- 2016 من مجموع النشطين إقتصاديا بالمائة: فرنسا 9.9؛ المانيا 7.6؛ بريطانيا 6.7؛ اليابان 3.9؛ الولايات المتحدة 6.0. وفي عام 2017: فرنسا 9.4؛ المانيا 3.8؛ بريطانيا 4.3؛ اليابان 2.8؛ الولايات المتحدة 4.4. وربما يعزى ارتفاع البطالة في فرنسا الى المهاجرين، وايضا انتشار التكنولوجيا المقتصدة بالعمل رغم انخفاض معدل نمو السكان، والذي يقدر للسنوات 2015- 2020 بالمائة سنويا: فرنسا 0.4؛ المانيا 0.2؛ بريطانيا 0.6؛ اليابان (0.2)؛ الولايات المتحدة 0.7.

 في جميع هذه الدول يبقى المعدل السنوي لنمو السكان، آنفا، دون 1 بالمائة، بما في ذلك اضافة المهاجرين، وفي اليابان سالب وفي فرنسا اقل من نصف الواحد بالمائة. وينمو الطلب على القوى العاملة بحصيلة الفرق بين نمو الناتج ونمو الإنتاجية، فعندما يتحرك الناتج بمعدل منخفض وتتزايد الإنتاجية بفعل التطور التكنولوجي تنحسر زيادات الطلب على القوى العاملة.

 والى جانب البطالة تواجه فرنسا، ودول متقدمة اخرى، مشكلة زيادة نسب السكان خارج سن العمل الى السكان في سن العمل نتيجة لنمو متوسط العمر. فمن المعروف عندما يكون معدل نمو السكان مرتفعا ومتوسط العمر منخفضا ترتفع نسبة السكان دون سن 15 سنة من مجموع السكان، وهو الوضع في البلدان النامية الفقيرة وعالية النمو السكاني، بينما في الدول المتقدمة تتقلص نسبة السكان دون سن 15 لكن فئة السكان فوق سن 64 تتزايد، وهي الظاهرة التي حظيت بالكثير من الدراسات في السنوات الأخيرة. وعندما تضاف هذه الى تكاليف اعانات البطالة ترتفع، مع الزمن، الأعباء الاجتماعية في الموازنة المالية العامة. ولمعرفة هذه الظاهرة نبين حجم السكان في الفئات العمرية 65 سنة فأكثر والأطفال 14 سنة فما دون، مجتمعَين، نسبة الى السكان في سن العمل وفق أحدث البيانات بالمائة:

 فرنسا 60.8؛ المانيا 52.8؛ بريطانيا 56.8؛ اليابان 66.5؛ الولايات المتحدة 52.3.

 فرنسا اقل من اليابان في هذه الأعباء لكنها أعلى من بقية الدول المناظرة. ان لتلك النسب علاقة بالنمو الطبيعي للسكان ومتوسط العمر، كما تقدم، والهجرة التي تساعد عادة على خفض نسب الإعالة لأن اكثر المهاجرين شباب في سن العمل.

 وهناك مؤشر آخر له علاقة مباشرة بالإعالة واعبائها المالية، نسبة المشتغلين من السكان في سن 15 سنة فأكثر، وبحسب تعاريف منظمة العمل الدولية، بالمتوسط السنوي للمدة 2008-2017 بالمائة لأقرب وحدة مئوية: فرنسا 51؛ المانيا 57؛ بريطانيا 58؛ اليابان 58؛ الولايات المتحدة 59. تلك النسب من السكان في سن العمل فقط وليس من مجموع السكان. وهكذا يتضح ان فرنسا، واجهت تكاليف التغيرات الديموغرافية وبيئة العمل اكثر من نظرائها في الدول المتقدمة، رغم ان اليابان هي الأولى من زاوية التغيرات الديموغرافية لوحدها.

 التوازن الخارجي:

 لا تشير البيانات الى مشكلة لدى فرنسا في التوازن الخارجي فقد تكيف إقتصادها على مستوى من الانفتاح التجاري فوق المتوسط يقارب بريطانيا وأدنى من المانيا، وبدلالة نسبة المستوردات من السلع والخدمات الى الناتج المحلي الإجمالي عام 2017 بالمائة: فرنسا 32؛ المانيا 39.7؛ بريطانيا 31.9؛ وفي اليابان 15.1 بالمائة عام 2016 و20 بالمائة عام 2014؛ والولايات المتحدة 14.7 بالمائة عام 2016.

 وعادة ما تعزى الكثير من مشكلات الإقتصاد الى عجز مزمن في الميزان التجاري او ميزان المدفوعات الخارجية، لكن فرنسا لا تعاني مشكلة واضحة في ميزان المدفوعات، فقد كانت نتيجة الحساب الجاري لميزان المدفوعات بالمتوسط للسنوات 2001 – 2017 نسبة الى الناتج المحلي الإجمالي بالمائة: فرنسا (0.32)؛ المانيا 5.56؛ بريطانيا (3.68)؛ اليابان 2.88؛ والولايات المتحدة (3.58).

 ويتضح ان فرنسا قريبة من التوازن فالعجز طفيف اقل من نصف الواحد في المائة، وعادة تستقبل فرنسا تدفقات استثمارية طوعية، منها لحيازة اوراق دين حكومي فرنسية وودائع في جهازها المصرفي، إذ تتجه بعض الاحتياطيات الدولية للبنوك المركزية اليها. بينما تحتاج بريطانيا تدفقات استثمارية صافية بمقدار 3.68 بالمائة من الناتج المحلي لسد عجز الحساب الجاري لميزان المدفوعات والولايات المتحدة 3.58 بالمائة، وتستفيد الدولتان من مركزيهما الماليين الدوليين لتمويل عجوزات حسابهما الجاري.

 وقد ساعد معدل التضخم المنخفض، والمنسجم مع المانيا ومنظومة اليورو، في حفاظ فرنسا على توازنها الخارجي. وذلك لأن سعر الصرف الأسمي معطى للسياسة الإقتصادية الفرنسية، ولا بد ان تتكيف معه. ولو تجاوز معدل التضخم في فرنسا نظيره الألماني تنخفض القدرة التنافسية لفرنسا بسبب وحدة سعر الصرف فينشأ العجز الخارجي ويستمر، ولو انزلق إقتصادها الى مثل هذا العجز لمدة طويلة سوف تضطر حتما لمغادرة منظومة اليورو.

 ومنذ اعتماد اليورو عام 1999 والى عام 2017 كان معدل التضخم السنوي بمقياس اسعار المستهلك بالمائة: فرنسا 1.37؛ المانيا 1.40؛ بريطانيا 1.99؛ اليابان 0.02؛ منطقة اليورو 1.93؛ الولايات المتحدة 2.18. وهكذا يتضح كم ان معدلات التضخم في هذه الدول عموما واليابان وفرنسا والمانيا خاصة منخفضة. لكن معدل التضخم المنخفض يضع صعوبات امام السياسة النقدية والمالية العامة إذ يضطرهما الى ابقاء اسعار الفائدة واطئة، وبخلافه يرتفع سعر الفائدة الحقيقي على الدين الحكومي والائتمان بصفة عامة فتزداد القيمة الحقيقية لنفقات خدمة الديون. ان معدلا للتضخم اعلى من هذا مفيد لإنعاش الإقتصاد ويوسع من دائرة خيارات السياسة الإقتصادية.

توزيع الدخل:

 من المقاييس الشائعة لدراسة التفاوت Inequality في توزيع الدخل معامل جيني Gini Coefficient: بين الصفر، حالة المساواة التامة في الدخل بين الافراد او فئات المجتمع، والواحد الصحيح او 100%، على فرض استحواذ احد الأفراد او احدى الفئات على كل الدخل. ويستخدم لتوزيع الثروة او الأراضي الزراعية... وسواها. ورياضيا هو نسبة المساحة المحصورة بين خط المساواة التامة والمنحنى الفعلي للتوزيع وهو المتجمّع الصاعد لحصص الفئات من الدخل إزاء المتجمّع الصاعد لحصصهم من السكان.

 والمقياس الثاني: تقسيم المجتمع الى خمس فئات متساوية في السكان مرتّبة من الأدنى دخلا الى الأعلى، ثم نسبة دخل الفئة العليا الى الدنيا، اي كم يعادل دخل الفئة العليا من دخل الفئة الدنيا بالمرات.

 والمقياس الثالث: دخل اغنى 10 بالمائة من السكان الى دخل الأدنى دخلا الذين يؤلفون 40 بالمائة من السكان، ايضا بالمرات. ونعرض هذه المقاييس لنتعرف على توزيع الدخل في فرنسا مقارنة مع الدول المتقدمة الأخرى:

معامل جيني للسنوات 2010- 2017 بالمائة: فرنسا 32.7؛ المانيا 31.7؛ بريطانيا 33.2؛ اليابان 32.1؛ الولايات المتحدة 41.5.

 المقياس الثاني: نسبة دخل الخُمس الأعلى دخلا الى الخُمس الأدنى دخلا من السكان بالمرّات للسنوات 2010- 2017: فرنسا 5.2؛ المانيا 5.1؛ بريطانيا 5.4؛ اليابان 5.4؛ الولايات المتحدة 9.4.

 المقياس الثالث: نسبة حصة أغنى 10 بالمائة من السكان من الدخل القومي الإجمالي الى حصة 40 بالمائة من السكان الأدنى دخلا للمدة 2010- 2017 بالمرات: فرنسا 1.3؛ المانيا 1.2؛ بريطانيا 1.3؛ اليابان 1.2؛ الولايات المتحدة 2.

 ومن تلك المقاييس، والمعتمدة في التقرير العالمي للتنمية البشرية، نفهم ان الدول الأربع متقاربة على نحو لافت في توزيع الدخل، وبذلك لا يمكن القول ان فرنسا انشغلت بالعدالة التوزيعية على حساب النمو لأن المانيا لا تختلف عنها وكذلك اليابان. وتختلف الولايات المتحدة اختلافا كبيرا نحو تفاوت اشد بفارق جوهري.

 ورغم تطور وتعقيد شبكات الحماية من الفقر، وتعويضات البطالة والمدفوعات التقاعدية، يتضح ان التفاوت في توزيع الدخل لا يستهان به في فرنسا وتلك الدول. فنلاحظ من المقياس الثاني ان دخل الفئة العليا يزيد على خمسة امثال دخل الفئة الدنيا. وان 10 بالمائة من السكان، المقياس الثالث، يحصلون أكثر مما يحصل عليه 40 بالمائة من السكان، هذا بعد الضرائب والإعانات. وتتطلب الإجابة على التساؤلات، هنا، بحثا تفصيليا في نظام المالية العامة، لأن الإنفاق الحكومي يتجاوز 55 بالمائة من الناتج المحلي، كما سيتضح، فكيف تتصرف الحكومة بأكثر من نصف الدخل الوطني ويبقى مع ذلك هذا التفاوت في الرفاه. ان الدراسة المتأنية لمصادر التدفقات المالية الى الموازنة العامة ومصباتها النهائية قد يكشف عن فرص سانحة لخدمة الوظائف التوزيعية للسياسة المالية. وذلك ليس في فرنسا وحسب بل في جميع الدول التي يشكل الإنفاق الحكومي فيها جزءا كبيرا من الدخل الوطني (القومي) ومنها العراق.

 ومن المناسب عرض نسب الإنفاق الحكومي الى الناتج في هذه الدول، الى جانب اهمية الضرائب على الدخل من مجموع الإيرادات الضريبية:

 الضرائب على الدخل والأرباح والمكاسب الرأسمالية نسبة الى مجموع الإيراد الضريبي للمدة 2007 - 2017 بالمائة: فرنسا 25.5؛ المانيا 17.4؛ بريطانيا 33.7؛ اليابان 46.5؛ الولايات المتحدة 53.7.

 ومنها يتبين ان الضرائب المباشرة في فرنسا منخفضة نسبيا مقارنة مع الدول الأخرى عدا المانيا، وعادة ما يمتدح الاعتماد على الضرائب المباشرة في تمويل الإنفاق الحكومي.

 الإنفاق الحكومي نسبة الى الناتج المحلي الإجمالي عام 2017 بالمائة: فرنسا 56.4؛ المانيا 43.9؛ بريطانيا 38.4؛ اليابان 37.5؛ الولايات المتحدة 34.8. وهنا تختلف فرنسا عن بقية الدول من صنفها اختلافا واضحا، بيد ان الاستنتاج النهائي يتوقف على دراسة بالمضمون المبين آنفا.

 كلمة ختام:

 الخلاصة ان فرنسا لا تختلف عن دول متقدمة اخرى في مثل حجمها السكاني سوى في بعض الخصائص، ومنها سرعة تراجع الإنتاج السلعي وخاصة الصناعة التحويلية وارتفاع نسب البطالة.

 كما ان معدل النمو الإقتصادي واطئ واستمرار انخفاضه يراكم مشاكل عدة، البطالة من بينها. بل لو ارتفع النمو الإقتصادي فوق 3 بالمائة سنويا سوف يخفف عبء الإنفاق الحكومي تدريجيا. لكن البحث عن مصادر للنمو من خارج الصناعة التحويلية وما يرتبط بها يكرس الوضع القائم، ومن المبالغ به القاء اللوم على قواعد التنظيم الحكومي للنشاط الإقتصادي او دور الدولة عموما.

لا شك ان اعباء الإنفاق الحكومي على الإقتصاد اصبحت ثقيلة، وثمة شكاوى وإعتراضات من فئات لا تصنف بانها فقيرة. ولذا تصبح الحكومة في وضح حرج لأنها، عمليا، يصعب عليها التخلي عن موارد ضريبية معينة لضخامة التزاماتها المالية في الإنفاق التي تعوّد عليها المجتمع، كما لا تتمكن من زيادة تلك الإيرادات الضريبية في المستقبل لخفض المديونية او لخدمة اهداف تخص العدالة الاجتماعية. واشارت تقارير وتصريحات الى برامج لدى الحكومة الفرنسية لإعادة النظر في الضرائب على ارباح الشركات والثروات وحتى الضرائب على الأجور وتطمح الى خفض نسبة الإنفاق الحكومي الى الناتج المحلي نحو 52 بالمائة عام 2022.

 وتستحق العدالة التوزيعية والموقف منها في سياق هذه التوجهات اهتماما أكبر. ومن الضروري لفت الانتباه الى ان وصف حجم الإنفاق الحكومي بالضخامة لا يؤدي الى نفس المقترحات، كما سلف، لأن هذا المقدار من الموارد تختلف كثيرا عن مقاربات التصرف به، كما ان النفقات ذات الهدف الاجتماعي عالية الحساسية فوق ما يتصور السياسيون. ومع ذلك لا تكفي الأسباب الإقتصادية لتفسير الاحتجاجات الأخيرة، ذوي السترات الصفراء، دون عناصر تحريضية في البيئة السياسية.

وسوم: العدد 807