الدعاية للعلمانية
عندما يجد أصحاب الباطل أن المجتمع يرفض بضاعتهم الزائفة، يعملون على ترويجها بالتجزئة. فالناس قد يتساهلون مع الجزء البسيط، ولا يحسّون بخطورته. فإذا قبلوه فقد آن الأوان لترويج جزء آخر... وهكذا يبتلعون الطعم. فإذا رأى أصحاب البضاعة أن الظرف صار مواتياً لعرضها كاملة فقد يتقبّلها المجتمع لأنها لم تعد غريبة عليه بعد أن ابتلع فتاتها وتشرّب قطراتها.
وعندما ينهض الواعون منذ أن عُرضت الأجزاء الأولى، يحذّرون وينبّهون، يتّهمهم الدهماء وأصحاب الأغراض بأنهم متزمّتون متحجّرون متخلّفون... فإذا تفاقم الأمر، وطمى الخَطْب، كان الرجوع عن الباطل صعباً لأن جراثيمه قد غَزَت خلايا المجتمع، وأصبحت جزءاً من ثقافته.
فهكذا كان تسلّل العلمانية وقيمها إلى المجتمعات المسلمة.
نشأت العلمانية في بلاد الغرب ردَّ فعل على اضطهاد الكنيسة للعلماء، وتحالفها مع الإقطاع، فكان أن سادت ثقافة فصل الدين عن الدولة، بل فصله عن السياسة والاقتصاد والتربية والأخلاق والاجتماع. ومَن أصرَّ على تمسّكه بالدين فليس له إلا مجال الاعتقاد الشخصي وبعض الممارسات الطقوسية.
وعندما يعترض مسلم على النهج العلماني يتّهمونه بأنه يريد إقامة دولة دينية، وهو ما يعني، بالمفهوم الغربي، الدولة التي يحكمها رجال الدين وينسبون إلى أنفسهم العصمة وأنهم نواب عن الله... لا يا سادة، الحُكم في الإسلام يمارسه البشر وفق منهج الله، وإن الفاصل بين حكم إسلامي وآخر علماني أن مرجعية الحكم في الإسلام إنما هي إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، ثم إن للناس، حسب ما يعرض لهم من أمور، أن يجتهدوا فيما لا يجدون فيه حكماً صريحاً، ليصلوا إلى الحكم الذي ينسجم مع مقاصد الشريعة. وبذلك يكونون قد اتخذوا الله إلهاً لهم. وأما في النظام العلماني فلا يبالي أصحابه بما وافق الشرع أو خالفه، إنما يُحكّمون قناعاتهم وأهواءهم، وإنهم، إذ لم يتّخذوا اللهَ إلهاً مشرّعاً فقد اتخذوا آلهة أخرى، شعروا أو لم يشعروا، واعترفوا أو لم يعترفوا. اتخذوا المال واللذة والمنفعة... آلهة، فظلموا ونهبوا الثروات ودمّروا وعاثوا الفساد في الأرض.
يقول رجاء غارودي في كتابه (الولايات المتحدة طليعة الانحطاط): إن كل الأزمات التي عرفتها القرون السابقة وتعيشها البشرية اليوم هي صور متنوعة للصراع بين تأليه السوق وعبادة المال، من جهة، وبين الذين احتفظوا بقيم أخرى. فالولايات المتحدة نشأت من خليط من المهاجرين الذين لا يجمعهم دين ولا ثقافة ولا قيم، إلا عبادة المال والسعي وراء المصلحة المادية الخاصة.
وهذا جوهر العلمانية كما عرّفها د. عبد الوهاب المسيري حيث قال ما خلاصته:
ليست العلمانية عملية سياسية تفصل الدين عن الدولة فحسب، بل هي رؤية معرفية أخلاقية مادية محضة تجعل الإنسان، من الناحية الاقتصادية، مجموعة من الحاجات الاستهلاكية والقوى الإنتاجية، ومن الناحية النفسية هو جهاز عصبي وغدد لا ينبغي أن يخضع لأي قيم أخلاقية... وتفصل السياسة عن الدين وعن الأخلاق فتسود الروح البراجماتية واعتبار الدافع الوحيد للسلوك هو حب الذات، وتُفكّك أواصر الأسرة فتجعل لكل فرد استقلاليّته، فهو وحدة إنتاجية استهلاكية تعمل على مبدأ اللذة والمنفعة. وتجعل الجنس نشاطاً مستقلاً عن القيم الأخلاقية وعن الأهداف الإنسانية (من حب وزواج وإنجاب)، وعن الإحساس بالذنب، فهو الآخر يخضع لعاملَي اللذة والمنفعة.
وللعلمانية وسائلها التي تتسرب عبر التعليم الذي يُنشئ الأجيال بعيدة عن الدين والأخلاق، وعبر وسائل الاتصال من إذاعة وتلفاز ومجلة وقصة وأغنية، حتى تدخل المفاهيم والقيم العلمانية إلى النفوس والوجدان والسلوك من غير وعي، وتصبح ممارسة الفاحشة أمراً مشروعاً، كما يصبح تسليط الآلة العسكرية لقتل شعب أمراً مقبولاً فهو يحقّق مصلحة الدولة الكبرى التي هي أحق بالبقاء! وتجميع الثروات في أيدٍ قليلة بمقابل جماهير لا تجد القوت الضروري ثمرةً مقبولة لأن تلك القلة عرفت من أين تؤكل الكتف، وأما تلك الجماهير فلا تستحق الحياة، ودعم أنظمة فاسدة طاغية لقتل شعوبها أمراً تسكت عليه القوى العظمى، بل تشجعه بطرائقها المعلنة أو المستترة...
وهكذا جرى قتل عشرات الملايين من الهنود الحمر، ومن الأفارقة، ثم من الفلسطينيين والسوريين والعراقيين...
ثم إنه لا بأس، في سبيل زيادة الإنتاج، من إفساد البيئة، وإذا كانت بعض الشعوب ذات قيمة فلتكن المصانع التي تقذف بالملوّثات القاتلة في أراضي شعوب أخرى، وبأيدي عمال ذوي أجور رخيصة.
إن المسلسل العلماني إذا بدأ فإنه لا يتوقّف، فقد استُبعد الوازع الديني، ومعه الوازع الأخلاقي الذي لا ينفك عنه، وانطلقت العربة نحو الهاوية، وهي تجرف في طريقها وتهلك الحرث والنسل، ثم مآلها إلى الدمار ما لم يَعُد أصحابها إلى رُشدهم ويعتصموا بقول الله تعالى: (وابتغِ فيما آتاكَ اللهُ الدار الآخرة، ولا تنسَ نصيبك من الدنيا).
وسوم: العدد 814