حِرفة التنظير، وحكيم سرمدا !
قال أحد الظرفاء ، قديماً : مازال فلان ، بخير، حتى أدركته (حِرفة) الأدب !
وقد سُمّي الأدب ، هنا ، حرفة ، يعمل العقلُ ، في إطارها !
فماذا تسمّى أعمال العقل ، في الأمور، التي لا تُعَدّ حِرَفاً ، ولا إطارَ لها ، يضبط حركة العقل ، فيها ، مثل المصطلحات الدارجة ، اليوم ، التي يتسابق بعض الناس ، إلى الاتّصاف ، ببعض مضموناتها ، مثل : مصطلحات (مفكّر، ومنظّر، وأمثالهما) !؟
لابدّ ، من التفرقة ، ابتداء ، بين : التفكير، والتنظير، والتخطيط .. كيلا يضلّ الذهنُ ، بين المصطلحات !
التفكير:هو عمل عامّ ، لعقل الإنسان ! فالعقل قد يقكّر، بأيّ شيء ، وبأيّ أمر، ممّا هو قادر،على التفكير به ؛ بشكل تلقائي ، أحياناً ، وبتوجيه من صاحبه ، أحياناً ! وقد يحاول العقل ، التفكير بأمور، ليس مؤهّلاً ، للتفكير بها ، فيُخفق ، وينكفئ !
أمّا التنظير: فهو وضع النظريات ، استنباطاً ، من حوادث متكرّرة ، أو ظواهر كثيرة الحدوث ، ضمن نسق واحد ، أو أنساق متشابهة ، ممّا تدركه الحواسّ ، ويخضع لعمل العقل !
أمّا التخطيط ، فهو وضع الخطط ، لتنفيذ مشروعات مستقبلية : صغيرة أو كبيرة .. خاصّة أو عامّة .. طويلة الأجل ، أو قصيرته ! وهو من أعمال العقل ، المذكورة ، آنفاً ، ولكنه أيسرها ، على العقل ، بشكل عامّ ! فكلّ عقل سليم ، مؤهّل للتفكير، هو قادر على التخطيط ، بحسب : استطاعته ، وخبرته ، ومؤهّلاته ، والموضوعات التي يخطّط لها : صغيرة أو كبيرة .. سهلة أو معقّدة !
والأعمال ، التي يمارسها الإنسان ، في حياته اليومية ، قد تُكسب صاحبها خبرة ، وقدرة ، على أيّ من الأمور المذكورة : التفكير الاحترافي الخاصّ الموجَّه ، والتنظير، والتخطيط !
وقد يكتسب بعض الناس ، شهرة حقيقية ، بين الناس ، في أمر ما ، من هذه الأمور ! وقد تكون الشهرة ، جُزافية ، أو مجّانية ، يكسبها صاحبها ، بطرق مختلفة ، وعند التجربة ، يتبيّن زيفها !
حكيم سرمدا :
راجت ، في بعض الأوساط ، من عشرات السنين ، حكاية ، هي أقرب إلى الطرفة ، منها إلى القصة الواقعية، وقد تكون واقعية ، لكنها تُذكرعلى أنها طرفة..عن رجل وُصف بأنه حكيم، في بلدة، تقع في الشمال السوري، اسمها : سَرمَدا ! وملخّص الحكاية : أنّ ثوراً ، في إحدى القرى ، أراد أن يشرب ماء ، من خابية .. فمدّ رأسه فيها ، فعلق الرأس ، في داخلها ، فعجز الثور، عن إخراج رأسه ، وعجز أهل القرية ، كذلك ، عن إخراج رأس الثور! وكان الناس بين خيارين ، هما : كسر الخابية ، أو قطع رأس الثور! ولم يكن أحد حريصاً ، على أيّ من الخيارين ! فتذكّر بعضهم (حكيم سرمدا) ، واقترح إحضاره ، لمعالجة الأمر! وحين حضر الحكيم ، ورأى المشهد ، فكّر قليلاً ، ثمّ أشارعلى أهل القرية ، بقطع رأس الثور، فقطعوه ! ثمّ حاولوا إخراجه ، من الخابية ، بعد أن غطس فيها ، فعجزوا ، فنصحهم الحكيم ، بكسر الخابية ، فكسروها ، واستخرجوا رأس الثور! فذهبت هذه الحادثة مثلاً ، وصار حكيم سرمدا ، مثالاً ، للحكمة المجّانية !
وكلمة (حكمة) ، تشمل الأمور العقلية ، الواردة أعلاه ، عامّة ، بحسب تعريف المصطلح (الحكمةُ : وضعُ الأمور في مواضعها) !
وبناء على ذلك ، يُطرح سؤال ، هو: إذا كان الأدب ، وهو حرفة منضبطة ، بحدود معيّنة ، يوصَف مُحترفُه، بالصفة الواردة ، أعلاه ( مازال فلان بخير، حتى أدركته حرفةُ الأدب ).. فماذا يقال ، عمّن أدركته حرفةُ التنظير، في كلّ شيء ، ولكلّ شيء ؟ ولا بدّ أن يأتي التفكير، قبل التنظير؛ إذ لا تنظير، بلا تفكير!
نقول: ماذا يقال ، عمّن امتَهنوا (التنظير) ، أو احترفوه ، فصاروا يتجوّلون ، بأخيلتهم ، في شتّى العوالم : المأهولة ، والمجهولة .. التي يستطيع العقل ، الخوض فيها .. والتي يعجز، عن الاقتراب ، من شطآنها ؛ لأنها فوق مستوى قدراته ، كلها !
ماذا يقال عن هؤلاء ، الذين أطلقوا الأعنّة ، لخيالاتهم ، للخوض ، في كلّ علم ، بما في ذلك العلوم الأرضية، المعروفة لدى غيرهم ، والمجهولة لهم .. وعلوم السماء ، المحجوبة عنهم ، وعن غيرهم ، إلاّ في حدود ، ما أوحى الله به ، لأنبيائه ورسله !
والطريف ، أنه ، كلّما كان المرء ، من هؤلاء ، أشدّ جهلاً ، كان أجرأ ، على الخوض ، فيما لايعلم ، من أمور الغيب والشهادة ! بل ، ربّما كان ، على أمور الغيب ، أشدّ جرأة ؛ وإلاّ فما معنى، أن يكون، في نظر الدهماء: مفكّراً ومنظّراً !
وإذا كانت الأمور تقاس بنظائرها ، وجرأةُ الجاهل ، على الخوض فيما يَجهل ، تقاس بما هو مثلها ؛ فإن حكيم سرمدا ، يُعَدّ - قياساً إلى هؤلاء المنظّرين - شديد الرصانة والاتزان ؛ برغم كونه ، لم يحصل ، على شيء ، من الشهرة ، التي حصلوا عليها ، بين دهماء المهووسين باللهاث ، خلف النظريات المشحونة ، بالتفاهة والبلاهة !
فضررُ (حكيم سرمدا) ، انحصر، في ذبح الثور، وكسر الخابية ! أمّا ضرر هؤلاء ، فهو الدمار الشامل، للأمّة، وكلّ مالديها ، من : قيَم ، وأخلاق ، ومُثل عليا ! وليسوا كلّهم ، بالطبع ، من الطراز المخرّب المدمّر؛ فالكلام ، هنا ، مقتصر، على أولئك ، الذين استغلّوا التفكير- الواجب ، في الأصل - وانحرفوا به ، ليجعلوه أداة تدمير! واستغلوا التنظير- المشروع ، في الأصل – ليَحرفوه ،عن مهمّته الأساسية ، إلى مهمّة ،لا صلة له بها، وهي: العبث الفكري الهدّام !
ولن نُسمّي ، هنا ، أحداً ، من المنظّرين ، الذين ملأوا خزائن المكتبات ، باللغو الفارغ ، المسمّى تنظيراً ، وقيمتُه الأولى ، لدى الدهماء ، تكمن ، في كونه مشحوناً ، بمعاول الهدم للأمّة : هدم كلّ ما لديها ، من قيَم ومقدّسات !
وسوم: العدد 816