نعم.. القدس قرة عين العرب والمسلمين
(سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى).. حادثة اهتزت لها أركان قريش، وكذّبها كبراء مكة وسادتها، ووقف الصديق في وجههم قائلاً: إن كان قال فقد صدق فإني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك (أصدقه في خبر السماء يأتيه في غدوة أو روحة).
لقد ربط الله سبحانه وتعالى بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى برباط قدسي، وشرّف آخر أنبيائه بهذه القدسية المباركة حيث أسرى بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ليؤم رسل الله وأنبيائه في المسجد الأقصى الطاهر الذي جعل منه الله تعالى رديفاً لبيت الله الحرام قدسية ومكانة، محملاً نبيه محمد عليه الصلاة والسلام أمانة ديمومة هذا الرباط والمحافظة عليه حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وحمل المسلمون هذه الأمانة بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.. وكان شرف فتح بيت المقدس لأمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب، الذي تسلم مفاتيحه من بطريرك المسيحيين طواعية بناء على نبوءة في كتبهم تشير إلى أن مفاتيح هذا البيت لا تسلم إلا لعمر لأنه الأجدر في حمايته والأقدر على صونه، وكان مما أوصى به البطرك عمر (عدم سُكنى اليهود في القدس وأكناف بيت المقدس).
ودارت الأيام وضعف حال المسلمين وراحت الحملات الصليبية العاتية تتقاطر من أوروبا تريد بيت المقدس حتى تمكنوا منه عام (1099م) بعد أن أجهزوا على نازليه وسكانه الذين – كما أجمعت كتب التاريخ الغربية والإسلامية – بلغوا 70 ألف ونيف، حتى روى أحد المؤرخين الغربيين المعاصرين لتلك الحملات، أن الخيل غاصت حتى الركب في بيت المقدس عند الاستيلاء عليه.
وبقيت القدس لنحو قرن بيد الصليبيين حتى قيض الله لهذه الأمة القائد المؤمن صلاح الدين الأيوبي الذي أعاد لهذه الأمة عزتها وهيبتها وقوتها ومنعتها ووحدتها وحرر القدس من أسر الصليبيين عام (1187م).
وشاء الله أن تنتكس أحوال المسلمين بعد سقوط الدولة العثمانية وعزل سلطانها عبد الحميد الثاني وبالتالي إلى إلغاء الخلافة الإسلامية عام 1924 م، لتنحسر هذه الدولة العظيمة المترامية الأطراف التي كانت الشمس لا تغيب عن ممتلكاتها إلى ما يعرف اليوم بتركيا، ويتمكن قائد الجيوش الإنجليزية (اللنبي) من دخول القدس بعد هزيمته للجيوش التركية، ويقف على أبوابها ويعلن بكل صفاقة وتحدي، ينم عن حقد دفين (الآن انتهت الحروب الصليبية)!!
وتنفيذاً لوعد مشؤوم قطعه وزير خارجية بريطانيا اللورد بلفور لليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، وتحت مظلة مؤامرة دولية حاكها الغرب الإمبريالي والشرق الماركسي، تمكن الصهاينة من إقامة دولة لهم على أجزاء كبيرة من فلسطين وبعض القدس عام 1948، إلى أن تمكنوا في ظل هوان العرب وتشرذمهم إلى احتلال ما بقي من الأراضي الفلسطينية والقدس بعد هزيمتهم للعرب عام 1967، ثم راح الصهاينة ينهشون هذه المدينة المقدسة كما تنهش الذئاب الجائعة فريستها، حتى لم يعد من معالم القدس الإسلامية العربية إلا بقايا أطلال، وبعض المصلين الذين هدَّت أجسادهم السنين لإقامة بعض الصلوات في كنف بيت المقدس، الذي أعمل يهود فيه فؤوسهم ومعاولهم حفراً وهداً يريدون هدمه لإقامة هيكلهم المزعوم على أنقاضه، والعرب لا حول لهم ولا قوة وقد أسلموا أمرهم لعدوهم يرجون منه – واهمين - إنصافهم ونصرهم واسترجاع حقوقهم المغتصبة.
وفي حمأة هذا الضياع والتفتت والهوان العربي لاحت بارقة أمل أطلقها حفيد آل عثمان رجب طيب أردوغان ممتطياً صهوة جواده بكل إباء وشمم، متمثلاً قول الشاعر:
يقولون أحرارٌ وللحر آيةٌ إذا سيم خسفاً قاتل الإنس والجن
ليقف بكل شموخ في مؤتمر قمة العرب في سرت ويعلن أن القدس (هي قرة عين جميع العالم الإسلامي وهي القبلة الأولى ولا يمكن قبول اعتداءات إسرائيل على المقدسات إطلاقاً ووزير الداخلية الإسرائيلي يقول ويعلن القدس عاصمة لإسرائيل.. في الحقيقة هذا جنون ونشاط المستوطنات في القدس الشرقية ليس أمراً مقبولاً أو له مبرر ولا يتلاءم مع القانون الدولي ولا ضمير الإنسانية). معلناً (أن مصير إسطنبول لا يختلف عن مصير القاهرة وسرت ومن دون شك القدس، وعقيدتنا لا تجعلنا أصدقاء فقط، بل أخوة وأشقاء فقد دوّنا معاً التاريخ الغني لهذه المنطقة ويجب أن لا يشك أحد أننا سندون معا المستقبل المشرق)، مشدداً على أن (العرب والأتراك يتواجدون معاً في جغرافيا شهدت دماء ودموع واحتلالات، لكن هذا الوضع لن يدفعنا لليأس)، وقال: (التحالف هو رد على كل داء وبإذن ألله نبني المستقبل فوق السلام والرفاه والأمن والاستقرار).
وقال: (نحن نريد في هذه المرحلة رؤية نهاية الطريق وليس خارطة الطريق)، مشدداً (على أن إسرائيل في نشاطها الاستيطاني تنتزع الأحاسيس الإسلامية والتاريخ ولا تخالف الشرعية الدولية فقط فالقدس أصبحت عبر القرون مدينة إنسانية ورمزاً للتعايش)، محذراً من أن (احتراق القدس يعني احتراق فلسطين وبالتالي الشرق الأوسط برمته)، وأنه (يجب أن يعلو صوت الإنسانية للتدخل في تراجيديا ما يجري في قطاع غزة ويجب تحويل هذا الوضع إلى وضع طبيعي.. تلك مسؤولية مشتركة للإنسانية وليس فقط للفلسطينيين وعليه لابد من الوحدة الوطنية الفلسطينية ونحن في تركيا نساند التضامن والمصالحة)، (وإننا في تركيا لا نستطيع أن نتجاهل ما يحصل في الشرق الأوسط، إننا نراقب الأحداث، وعلينا أن لا نأخذ كل تفصيل على حدة بل لابد من النظر إلى مجمل الأمور وفهمها، فالقضية الفلسطينية هي جوهر الصراع وهي القضية الأكثر أهمية وهي مفتاح السلام في المنطقة كلها)، (إن اليوم ليس يوم الجلوس في المدرجات والتفرج على التطورات ولا هو يوم ذرف الدموع والبكاء، بل يوم العمل، تعالوا لنتحمل مسؤولياتنا، تعالوا لنبني مستقبلنا، أما الذين يتهمون الإسلام ويتهموننا بالإرهاب فهم من يقترف جرائم ضد الإنسانية وعليهم أن يراجعوا أنفسهم قبل انتقاد الآخرين).
وختم أردوغان كلمته قائلاً: (اليوم ليس يوم العزاء وسكب الدموع.. اليوم تحالف وتحرك معاً لتأسيس السلام بشكل عادل، وفي تركيا نرى أن تسوية القضية الفلسطينية مفتاح الأمن والسلام في المنطقة فنحن شعوب أسسنا معاً حضارات وثقافات السلام ونحن أنصار دين اسمه السلام). (تعالوا لنحطم الأحكام المسبقة ونعدل الصور والأفكار الخاطئة المتعلقة بنا.. تعالوا لنؤسس معاً مستقبلاً يؤسس بين الحضارات وليس فيه صراع بين الحضارات، وبهذا المنظور لا أحد يستطيع الزج بالإسلام فوبيا بالعالم الإسلامي.. من يتهمنا بذلك يرتكبون جرائم إنسانية).
بهذه الكلمة المؤثرة ذات المعاني الرائعة والدلالات القاطعة التي ألقاها أردوغان في مؤتمر القمة العربية في سرت، والتي رفعت من معنويات العرب في هذا الزمن الرديء، فإن الشعوب العربية تتمنى على قادة العرب أن يرتقوا إلى ما قاله أردوغان، وأن يتحملوا مسؤولياتهم التاريخية تجاه القدس والأقصى وفلسطين، ويتخذوا القرارات الجريئة والصائبة في مواجهة التحدي الصهيوني وأطماع الدولة العبرية التي لا تقف عند حدود القدس وفلسطين، فعينهم تذهب بعيداً إلى ما وراء النيل والفرات، وسيحققون ذلك ما دام العرب هذا حالهم من التفكك والتشرذم والضعف والهوان والتردد واللامبالاة.
ختاما نقف بكل احترام أمام المقاومة الفلسطينية في غزة التي تقف بصدور أبنائها العارية في وجه الأطماع الصهيونية واعتداءاتها المجرمة بكل شموخ وإباء، وتلقنها درساً في البطولة والفداء، وتحطم يدها الطويلة التي طاما تفاخرت بها في كل اعتداء تقدم عليه.
وسوم: العدد 824