كلفةُ المقاومةِ وضريبةُ المهادنةِ في الميزانِ العربي

يظن بعض العرب أن السلام مع العدو الصهيوني، والاعتراف بكيانه وتطبيع العلاقات معه، والقبول به جاراً في المنطقة وشريكاً في الإقليم، والتسليم باغتصابه الأرض العربية الفلسطينية، والكف عن المطالبة بتحرير فلسطين واستعادتها، وتعويض أهلها وعودتهم إليها، وإنهاء حالة العداء معه، وإعادة تصنيف العلاقة به على قاعدة الاحترام المتبادل والتعاون المشترك، وحفظ الأمن وسلامة الحدود، ووقف كافة الحملات العدائية ضده، ومحاربة كل الجهات التي تقاومه وتستهدف أمنه، وتسعى لتهديد سلامته وتعريض حياة مستوطنيه للخطر، والتضييق عليها وملاحقتها، ومحاصرتها وتجفيف منابعها، هو خيرٌ لهم ونفعٌ لبلادهم.

يظنون مخطئين وواهمين أنهم بهذا سيكونون في مأمنٍ من الخطر، وبعيداً عن الشر، وسيحفظون أمنهم وسلامة أنظمتهم، وسينعمون بالسلام والرخاء، والأمن والاطمئنان، ولن يهدد أوطانهم مستعمر، ولن يطمع فيها مستكبر، وستنتعش بلادهم اقتصادياً ،تجارياً وسياحياً، وسترتاح خزائنهم من النزف المالي المستمر منذ منتصف القرن الماضي على القضية الفلسطينية وفصائلها وشعبها، ولن يعودوا مضطرين لدعم الفلسطينيين ومساندنهم، بل سيجدون فرصاً جديدةً وكبيرةً للاستثمار مع الكيان الصهيوني الناهض اقتصادياً، والمتطور تكنولوجياً، والمتمكن من ناصية القرارات العالمية، والمتحكم في حركة رؤوس الأموال الدولية، ومدير كبريات البنوك والمصارف وبيوت المال الدولية.

لهذا تهرول الأنظمة العربية الخائفة على مستقبلها، والقلقة على مصيرها، نحو الكيان الصهيوني تريد مهادنته والسلام معه، وتسعى للاعتراف به والتعاون معه، والتحالف وإياه والاتفاق معه، وتعتقد أنه سيكون صادقاً معها ووفياً لها، وأنه لن يكون طامعاً فيها ولا متآمراً عليها، بل إن تحالفهم معه سينفعهم وسيفيدهم، وسينهض بهم وسيحميهم، وسيكون درعاً يحفظهم وقوةً تدافع عنهم، وسنداً يقويهم وحليفاً ينتصر لهم.

وما علمت الأنظمة العربية أن الكيان الصهيوني ذئبٌ غادرٌ، وعدوٌ ماكرٌ، وجارٌ خبيثٌ، فهو لن يبقي على بلادهم مستقلةً، ولن يقبل بخزائنهم عامرة، ولن يطمئن باله وشعوبهم متآخية، وطوائفهم متساوية، ومذاهبهم متعايشة، بل سيعمد كما عودنا على دس الفتن والاضطرابات، وإشعال الحرائق وخلق الفوضى بين شعوب بلادنا العربية، لعلمه أن بقاءه في فرقتهم، واستمراره في تمزقهم، وقوته في اختلافهم، وتفوقه في ضعفهم.

هكذا يظن سدنة العرب وحكامهم، ملوكاً وقادةً ورؤساءً، وما علموا أن كلفة السلام المزعوم والتسويات السراب أكثر بكثيرٍ من كلفة المقاومة والصمود، وأقل من ثمن الحرب والقتال، والتاريخ شاهدٌ على ذلك، فشعوبنا العربية في ظل المقاومة وأثناء الحروب تعطي بغدق، وتتبرع بسخاء، وتجود بلا حدود، وتقدم بلا حسابٍ، ورغم عظم ما تقدم إلا أنها تعتقد أنها مقصرة ولم تقم بما ينبغي عليها القيام به، ولم تعط كما تحب وتتمنى، ولولا ظروفها لأعطت المزيد وقدمت الأكثر.

ولعل أغلب البلاد العربية قد نعمت كثيراً خلال فترات دعمها للمقاومة الفلسطينية والعربية، ولم تشكُ من فقرٍ وفاقةٍ، ولا من عوزٍ وحاجةٍ، بل تعاظم اقتصادها، وتضخمت محافظها، وتزايد رخاء شعوبها، وكثرت خيراتها، وتضاعف إنتاجها من النفط والغاز، وتطورت عمرانياً ونهضت علمياً، وعم الخير أوطانها وشمل كل أطرافها، رغم أنها لم تكن تعطي المقاومة كل ما تريد، أو تفيها بكل ماتحتاج، أو تلتزم تجاهها بالواجب والمطلوب، ومع ذلك فقد بقيت الأنظمة آمنةً مستقرةً، لم يهدد وجودها أحد، ولم تعكر صفو حكمها معارضة، ولم تستطع الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها أن تفرض عليها أتاواتٍ أو ضرائب، أو أن تبتزها وتساومها، وتستولي على أموالها وتستحوذ على خيراتها.

لسنا بحاجةٍ إلى جهدٍ كبيرٍ ومنطقٍ رشيدٍ لنثبت أن أوهام السلام مع الكيان الصهيوني ستفقر البلاد العربية وستجوع شعوبها، وستجبر حكامها على التخلي عن كل ما يملكون لقاء بقائهم واستمرار حكم أنظمتهم، ولعل إدارة الرئيس الأمريكي ترامب تساعدنا كثيراً على إدراك هذه الحقيقة، إذ تمكن خلال أقل من ثلاثة سنواتٍ فقط من سحب أكثر من تريليون دولار من المملكة العربية السعودية ودول الخليج مجتمعةً، وما زال يصر على التزامها بالمزيد والدفع أكثر، حيث تنتظرهم صفقة القرن التي صممها بأموالهم، ونظم بنودها وفق خزائنهم،  حيث سيجبرهم على الدفع والأداء، دون أن تكون لهم القدرة على الرفض أو الاعتراض.

المقاومة تعز أهلها، وترفع رأس شعبها، وتكرم المؤمنين بها، وتصون كرامة المؤيدين لها، وتعلي راية المنتسبين إليها والداعمين لها، وهي وحدها التي تصنع الهوية وتحقق الكرامة، وتخلق العزة وتصون الأنفة، وتصد العدو وتؤدب المعتدي، وتمنع المتغول وتضرب المتهور، وهي التي تحفظ أموالنا، وتصون خيراتنا، وتعمر بلادنا، وتسور القوة حرماتنا، وصدق رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال "ما ترك قومٌ الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب" و"ما ترك قومٌ الجهاد إلا ذلوا".  

وسوم: العدد 825