أحوال البكيّ وأنواع البكاء ما صدق منه فحمد ، وما كذب فذم
من المعلوم أن البكاء سلوك بشري فطر الله عز وجل الإنسان عليه مصداقا لقوله تعالى : (( وأنه هو أضحك وأبكى )) ومن خلال هذه الآية الكريمة يتبين أن الضحك والبكاء فطرة في الإنسان . وأول ما يستهل به الإنسان حين يخرج من رحم أمه البكاء ، ويكون عبارة عن صراخ ، وهو صياح شديد متواصل، ويكون الصراخ من مستغيث أو من مظلوم أومن محروم أو من خائف . ويلازم البكاء الإنسان طيلة حياته علما بأن أحواله مع البكاء تختلف ، ويختلف معها نوع بكائه.
ولقد ورد ذكر أنواع من البكاء في محكم التنزيل منها قول الله عز وجل : (( أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون )) ،وهذا النوع من البكاء مطلوب من السامدين وهم الذين يشغلهم اللهو عما في كلام الله عز وجل من وعيد شديد . ومعلوم أن من يواجه وعيد أو يتهدده خطر يبكي حتما، وهو بكاء الخوف . ومثل هذا قوله تعالى أيضا : (( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون )) ، وهذه الآية تشير إلى بكاء أهل جهنم ،وهو شر بكاء على الإطلاق لأنه بكاء أبدي لا نهاية له ، وهو بكاء سببه المعاناة من شدة العذاب .
وذكر الله عز وجل بكاء عباده الصالحين في قوله تعالى : (( إذا تتلى عليهم آيات الرحمان خروا سجدا وبكيا )) ،وقوله أيضا :(( إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا )) ، ومثله قوله عز من قائل : (( وإذا سمعوا ما أنول إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ))، وهذا بكاء الخشوع ويكون عند سماع كلام الله عز وجل سواء ما تعلق منه بالوعد أو ما تعلق بالوعيد ، فهم يبكون أملا في ما وعد الله عز وجل من نعيم مقيم ، كما أنهم يبكون إشفاقا مما توعد به سبحانه وتعالى من عذاب شديد، وهذا بكاء محمود ، وهو في الخلوة أفضل منه في الجلوة ،لأنه لا يلابسه رياء ، وصاحبه ممن يظلهم الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن أنواع البكاء المذكور في كتاب الله عز وجل قوله سبحانه وتعالى : (( وجاءوا آباهم عشاء يبكون )) ،وهو بكاء إخوة نبي الله يوسف عليه السلام ، وهو بكاء كذب . وكثير من الناس يبكون هذا النوع من البكاء للتمويه على جرم ارتكبوه . ولقد جاء إخوة يوسف عليه السلام بدم كذب على قميصه ، وبكوا بكاء كذبا أيضا .
ومن أنواع الكذب المذكور في كتاب الله عز وجل قوله سبحانه وتعالى : (( وليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون )) ، وهذا بكاء الشعور بالغبن أو بالحرمان والافتقار ، وهو بكاء سر تفضحه الدموع إذا فاضت بها العيون.
وهناك أنواع أخرى من البكاء مما لم يذكر في كتاب الله عز وجل وأشهرها البكاء حين تحل المصائب بالإنسان خصوصا مصيبة الموت التي يبكي لها الناس جميعا كل على طريقته الخاصة ،فمنهم النائح المعول وهو الذي يصرخ بأعلى صوته ،والنواح بكاء يصاحبه كلام بصوت عال . وقد لا يصاحب النواح والعويل الدمع ، وهو ما يسمى بكاء التماسيح ، وزعموا أنها لا تدمع لها عيون ، وأحسب أن البكاء سلوك بشري لا تشارك الإنسان فيه مخلوقات أخرى مثل الحيوانات ، ولئن بكت هذه الأخيرة ، فالله وحده أعلم ببكائها كما أنه سبحانه أعلم بمنطقها . وقد ورد في الذكر الحكيم قوله تعالى : (( فما بكت عليهم السماء والأرض ))وقيل في تفسير هذه الآية ما كانت لهم أعمال صالحة تفتح لها أبواب السماء ، ولا عملوا في بقاع الأرض صالحا ،لهذا لا تبكي عليهم سماء ولا أرض ، ولئن كان بكاؤهما حقيقة لا مجازا ،فالله وحده أعلم به .
ومن أنواع البكاء أيضا التباكي ، وهو نكلف البكاء ، ويكون محمودا إذا كان القصد منه نشدان البكاء حقيقة في موقف يقتضي البكاء كما جاء في الحديث الشريف : " إذا قرأتم القرآن فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا " ، ويكون مذموما إذا كان تظاهرا وبكاء كذبا القصد منه الخداع .
ومن أنواع البكاء بكاء التعاطف مع الباكي أو المكروب إشفاقا عليه ، وهو ينتشر كالعدوى بين أصحاب القلوب الرقيقة .
ومن أغرب أنواع البكاء بكاء الفرح ، وتأتي غرابته من حيث كونه في الأصل يصاحب الحزن ، فإذا واكب الفرح خرج عن مقتضاه ، وهو أحب بكاء عند الناس جميعا ، و يكون على قدر حجم الفرح .
ومن أنواع البكاء بكاء مثير للضحك كالذي حكاه الجاحظ عن جاره الذي كان يقوم الليل ، ويبكي ، في قيامه، فاسترق ذات ليلة الجاحظ السمع ليعرف أي آيات الذكر الحكيم تبكيه ، فإذا هي قول الله عز وجل : (( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض )) ، وهذا بكاء المحروم ، ولعل الحكاية من اختراع الجاحظ ، وقد كان رحمه الله صاحب نوادر كما أبدع في حكايات البخلاء ، وربما كان جاره منهم فأراد التندر به بهذه النادرة .
ومن أنواع البكاء البكاء الصمات الذي لا تفضحه دموع ، ولا ملامح ، وهو أشد وأخطر أنواع البكاء ، وربما قتل صاحبه من شدة حزنه وكمده ، ولهذا جرت العادة أن يطلب من المحزون الشديد الحزن أن ينفس عن نفسه بالبكاء ، وبالدموع حتى لا يهلك كمدا.
وإذا كان الصغار أسرع بكاء من الكبار لنشأتهم عليه منذ أول صرخة لهم أثناء خروجهم من أرحام أمهاتهم ، فإن الجنس اللطيف أسرع إلى البكاء من الجنس الخشن نظرا لاختلاف طبيعتهما ، ذلك أن الله عز وجل أودع في الإناث عاطفة أرق مما هي في الذكور وهن الحوامل والمرضعات ، والحمل والإرضاع مما يستوجب رقة العاطفة ، ورقتها أدعى للبكاء والدموع .
وقد يكون البكاء أو بالأحرى التباكي سلاح الجنس اللطيف به يقضين حوائجهن تماما كالصغار ،وهوغالبا كبكاء إخوة يوسف عليه السلام ، وقد يبكي الجنس الخشن لبكاء الجنس اللطيف مع أنه بكاء كذب ، وهو ما يثير السخرية من غفلة من يخدع به ، وقبيح بالقضاة سواء كانوا قضاة على وجه الحقيقة أو على وجه المجاز أن يقضوا وقد خدعتهم دموع الجنس اللطيف الطيعة.
هذه أحوال البكيّ من الصغار والكبار والذكور والإناث ،وهذه أنواع البكاء ما صدق منها وما كذب ، وما حمد منها ، وما ذم.
وسوم: العدد 825