وقفات مع أشعار الجاهلية المتضمنة لمكارم أخلاق بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمّمها ( الحلقة الأولى )
من مشهور الأحاديث النبوية الشريفة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " هكذا بأسلوب حصر وقصر . والتتميم في هذا الحديث يفيد تكميل ما كان به نقص أو لم يبلغ الكمال . ولقد بلغ الكمال بمكارم الأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال عنه ربه جل جلاله : (( وإنك لعلى خلق عظيم ))، ولقد تخلق بما أوحى إليه سبحانه وتعالى في محكم التنزيل وهو ما عبرت عنه زوجه أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما حين سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت : " كان خلقه القرآن " .
ومعلوم أن البشر منذ بدأ الخليقة تعهدهم رب العزة جل وعلا برسالات أنزلها على صفوة خلقه من الرسل والأنبياء صلواته وسلامه عليهم أجمعين . وقد ظل الناس عبر العصور يرث خلفهم عن سلفهم مكارم الأخلاق . وما بقي الناس على الفطرة التي فطرهم الله عز وجل عليها و لم يحدوا عنها إلا شاعت فيهم مكارم الأخلاق . وقد ينحرف الناس عن مكارم الأخلاق في عصر من العصور، ولكن لا يمكن أن يخلو عصر ممن يحافظون على مكارم الأخلاق كما كان الحال في جاهلية العرب قبل البعثة النبوية. وما كان سائدا من مكارم الأخلاق في الجاهلية إنما هو من لزوم أصحالها الفطرة السليمة التي جبلوا عليها ، أومما ورثوه من مكارم أخلاق الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . ولقد كان رسول الله صلى الله عليه يلزم قبل بعثته الحنيفية السمحة ، وهي خلق خليل الله إبراهيم عليه السلام . ومن المؤكد أن من كان يلزم مكارم الأخلاق في الجاهلية إنما كان على الفطرة التي فطر الله الناس عليها .
ومن المعلوم أن أشعار الجاهليين تزخر بمكارم الأخلاق التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إنما بعث ليتمّمها.
واخترت في هذه الحلقة الأولى نموذجا من تلك المكارم للشاعر الجاهلي أوس بن حجر ضمنها بعض أبياته التي قال فيها :
1 يا راكبا إما عرضت فبلغن *** يزيد بن عبد الله ما أنا قائل
2 بآية أني لم أخنك وأنه *** سوى الحق مهما ينطق الناس باطل
3 فقومك لا تجهل عليهم ولا تكن *** لهم هرشا تغتابهم وتقاتل
4 وما ينهض البازي بغير جناحه *** ولا يحمل الماشين إلا الحوامل
5 ولا سابق إلا بساق سليمة *** ولا باطش ما لم تعنه الأنامل
6 إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا *** أصبت حليما أو أصابك جاهل
ففي هذه الأبيات يتوجه أوس بن حجر بالخطاب إلى رسول راكب ليبلغ عنه رسالة إلى أحد هم يسدي له فيها نصحا حتى لا تفوته مكرمات ، فنهاه أولا عن الجهل على قومه وعن جفائهم واغتيابهم وقتالهم . ومعلوم أنه من مكارم الأخلاق أن يخفض الإنسان جناحه لقومه، فلا يجهل عليهم وإن جهلوا عليه، ولا يجفوهم وإن جفوه ولا يغتابهم وإن اغتابوه ، ولا يقاتلهم وإن قاتلوه . وهذا خلق قرآني كانت بدايته كما أخبر بذلك رب العزة جل جلاله يوم قربا ابنا آدم قربانا ،فتقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل ،فمد هذا الأخير يده ليقتل أخاه الذي قال له : (( لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يديّ إليك لأقتل )) . ومنذ ذلك الحين والناس صنفان : صنف يمد يده أو لسانه ليؤذي غيره ، وصنف آخر يحجم عن ذلك متحليا بالخلق الكريم.
وحتى يقنع الشاعر من خصه بالنصح في هذه الأبيات بصدق نصحه وصوابه راح يضرب له أمثلة من واقعه المعيش ، فذكر أن البازي، وهو من الطيور الكاسرة لا يمكن أن يطير بلا جناح ، وقد جعل الذي أراد نصحه بمنزلة هذا الطائر الجارح ، وجعل قومه بمنزلة جناحه ، فكما أن البازي لا ينهض دون جناحه ، كذلك هو أيضا لا ينهض دون قومه .
وترسيخا لهذا النصح في ذهن من نصحه أن الذين يمشون على الأرض إنما تحملهم أقدامهم ، وجعله وهو يسيء إلى قومه بمنزلة الماشي الذي يريد المشي وقد فرط أو زهد في قدميه ، وذلك لبيان قيمة أهله بالنسبة إليه ، وهي قيمة يجهلها أو يتجاهلها .
وتأكيد لهذا المعنى يخبره أنه لا سابق إلا من سلمت ساقه ، وألا باطش دون أنامله ، وهو ما يقنع المقصود بالنصح بأهمية قومه الذين يسيىء إليهم كأهمية الجناح بالنسبة للبازي وأهمية وضرورة القدم للماشي ، وأهمية وضرورة الأنامل للباطش .
ولا شك أن الذي أسدى هذا النصح كان يلقى أو كان يسمع من قومه أذى ،لذلك جهل عليهم وكان هرشا معهم أي سيئا ، ومغتابا، ومقاتلا لهم ، لهذا نصحه بألا يغضب من قومه وإن أساءوا في حقه لحاجته الملحة والدائمة إليهم .
وينتهي الشاعر في البيت الأخير إلى أن من لا يحلم معرضا عن جهل غيره عليه إما يصيب حليما بريئا أو يصيبه جاهل متعمد ، وهو في الحالين خاسر .
إن الخلق الذي ينصح به أوس بن حجر من قصده بنصحه هو أولا الرفق بأهله والعفو عنهم ، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم وهو قول الله تعالى : (( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس )) ، وهو خلق من الأخلاق التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمّمها ، و التي كانت في جاهلية العرب موجودة لكنها لم تسلم من النقصان، ولم تبلغ الكمال حتى بلغ بها ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا النصح من أوس بن حجر لا يقتصر على من ذكره بالاسم في أول هذه الأبيات بل يتعداه إلى كل إنسان حتى تقوم الساعة ، والعبرة بالأشعار الجاهلية المتضمنة لمكارم الأخلاق بعموم لفظها لا بمناسبة قولها تماما كما يقال عن القرآن الكريم إن العبرة بعموم لفظه لا بخصوص سببه .
وفي الأخير نتساءل هل ستجد نصيحة هذا الشاعر آذانا صاغية في هذا الزمان الذي استفحل فيه أمر جهل الناس بعضهم على بعض وهو معرة ، وقل فيه الحلم بينهم وهو مكرمة ؟
وسوم: العدد 828