مرسي والعسكر: أمثولة مصرية
لم يكن محمد مرسي (1951 ــ 2019) خامس رئيس في مصر الجمهورية، بل كان الأوّل في ثلاث: أنه انتُخب ديمقراطياً عبر صندوق الاقتراع، وكان مدنياً وليس عسكرياً، وإسلامياً وليس قومياً (على شاكلة جمال عبد الناصر) أو ليبرالياً انفتاحياً بالمعنى المرذول للكلمة (أنور السادات) أو في أكثر من منزلة تائهة وشائهة بين سابقَيْه (حسني مبارك).
كذلك فإنه لم يكن المرشح الأوّل لحزب “العدالة والتنمية”، الواجهة السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، بل كان البديل الاحتياطي للمرشح الفعلي خيرت الشاطر، الذي توقعت الجماعة أن تعمد لجنة الانتخابات إلى إبطال ترشيحه؛ الأمر الذي حدث بالفعل، فصعد مرسي إلى سدّة المنافسة ضدّ الفريق المتقاعد أحمد شفيق.
هذان تفصيلان كانا جديرين بمنح مرسي مقادير من الشرعية الشعبية تفوق، كثيراً ربما، ما حصل عليه أصلاً من أنصاره ومحازبيه، أو كارهي شفيق وما يذكّر به من قبائح النظام الذي ثار عليه الشعب، أو الفئات ذات المصالح الأخرى المختلفة ضمن نسبة الـ51,7 التي نالها مرسي في دورة الإعادة. كذلك كان في وسعه الاتكاء على منبع آخر للشرعية، هو مبادرته إلى التراجع عن الإعلان الدستوري المثير للجدل، والاحتكام مجدداً إلى التصويت الشعبي والاستفتاء على مشروع الدستور الجديد، الذي حاز بالفعل نسبة موافقة بلغت 63%. وبصرف النظر عن مجموعة المسائل الخلافية في الدستور، خاصة قضايا الحقوق المدنية والحريات العامة وتفسير الشريعة الإسلامية، فإنّ نتيجة التصويت كرّست مرجعية شرعية وقانونية وشعبية لا تقبل الطعن أو الانتهاك.
أو، بالأحرى، لم تكن تقبلها إلا من جهة واحدة وحيدة: جنرال الانقلاب العسكري!
ولقد مهّد مرسي الأرض لعودة العسكر إلى الانقضاض على سلطة لم تفلتْ أعنتُها من قبضتهم منذ تموز (يوليو) 1952؛ وما كانوا سيقبلون بتسليمها أصلاً، عن طريق المناورة المؤقتة حصرياً، لولا أنّ مبارك كان ينوي قطع مسار التعاقب العسكري على السلطة عن طريق إعداد ابنه جمال لوراثته. الممهدات تلك بدأت مع ارتهان مرسي لمكتب إرشاد الجماعة، الذي صار هو المرجعية العليا؛ ليس في مستوى العمل الحثيث والمنهجي من أجل أًخْوَنة مؤسسات الدولة، فحسب؛ بل في إظهار علائم مبكرة على نوايا الاستفراد والحنث بوعود الانفتاح على القوى الأخرى.
وهكذا أخذت مصادر الشرعية تتآكل تباعاً، وتدريجياً، وتزايدت أسباب ضيق الشارع الشعبي بالسلطة، خاصة وأنّ مناخات الغليان في طور ما بعد 25 يناير كانت تنطوي على نفاد الصبر أكثر من التمهّل والتأني ومنح الفرصة لرئيس لم يكمل السنة الأولى في رئاسته. ولقد بات تطوراً مقبولاً، أو حتى تلقائياً وطبيعياً، أن يقبض على زمام الأمور ذلك الطرف الذي حظي على الدوام بمكانة عالية، شبه مقدّسة، في الوجدان الشعبي العريض؛ أي مؤسسة الجيش، خاصة بعد إحالة اثنين من رموزها، محمد حسين طنطاوي وسامي عنان، إلى تقاعد بدا أقرب إلى التجريد من الرتبة.
وفي رأس المفارقات التي اكتنفت قرارات مرسي، ومن ورائه مكتب الجماعة، أنّ الرجل البديل عن عسكر الحرس القديم كان عبد الفتاح السيسي، اعتماداً على ما عُرف عنه من تعاطف مع الإسلاميين، واستئناساً بالطواعية المفرطة التي اتصف بها سلوكه مع الرئاسة في وزارة الدفاع. مفارقة أخرى تخصّ مجموعات المعارضة، على اختلاف تياراتها الناصرية واليسارية والليبرالية، التي هللت للسيسي من منطق الابتهاج بالخلاص من جماعة الإخوان المسلمين. ولقد ارتكبت خطأ جسيماً حين اعتقدت أنّ قهر الرأي وقمع حرّية التعبير وحظر النشاط السياسي هي الوسائل المثلى لمحاربة الجماعة، فلم ينته الأمر بمجازر رابعة والنهضة فقط، بل توجّب أن تتفرّغ أجهزة السيسي بعدئذ لقوى المعارضة ذاتها، فشملتها حملات التنكيل والاعتقال والتصفيات الفردية.
ولم يكن عجيباً، وإنْ كان نادراً في الواقع، أن ترتقي تجربة رئاسة مرسي إلى حدود الأمثولة المصرية، فتبلغ الأوج الرمزي في رحيله وهو… داخل قفص المحاكمة.
وسوم: العدد 830