" في الصيف ضيّعت اللبن " مثل يستحضره العقلاء ويغفل عنه السفهاء
الأصل في هذا المثل الشهير أن امرأة في الجاهلية تدعى دختنوس بنت لقيط كانت زوجة عمرو بن عدس ، وكان شيخا موسرا ، فأبغضته فطلقها ، فتزوجت بعده شابا جميل المحيا صفر اليدين ، فأجدبت السنة ، فبعثت إلى طليقها تطلب منه حلوبة فقال لها : " في الصيف ضيّعت اللبن " ، وصارت عبارته مثلا يضرب لكل من يطلب شيئا قد فوّته على نفسه .
ولمّا كان الناس صنفين : عقلاء وسفهاء ، أما العقلاء فلا يفوّتون على أنفسهم أشياء أو فرصا ولا يفرطون فيها ، ولا يصيبهم ندم ولا حسرة ، وأما السفهاء وهم من أهل طيش فيفوّتون على أنفسهم ما لا يجب أن يفوتهم، ويكون مصيرهم الندم والحسرة ، ومن الندم ما يقتل .
وكثيرات هن مثيلات دختنوس يعشن في بحبوحة عيش ، وفي دلال في بيوت الزوجية لكنهن لا يقدرن ما هن فيه من نعم ، فينشزن بأزواجهن ويتمردن عليهم مستعصيات ويبغضنهم حتى إذا ضاق الأزواج ذرعا بنشوزهن ، وأعرضوا عنهن وطلبوا بدائل عنهن أو طلقوهن، ومر عليهن بعد ذلك زمن وذهب عنهن طيشهن ، وعدن فيه إلى رشدهن ،ندمن على ما فرطن فيه ، وفكرن في استدراك واستعادة ما فوتن على أنفسهن وقد فاتهن الأوان، لأن كسر المودة ككسر الزجاج لا يجبر كما قال الشاعر :
وهو بيت ينسب إلى الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .
وعلى مثال دختنوس ومثيلاتها في كل عصر ومصر يقاس أزواج أيضا ينشزون على نسائهن بسوء عشرتهن وإذايتهن وجفائهن، وهن صالحات مطيعات محبات لهم ، فيضيعون على أنفسهم ما جعل فيه الله عز وجل خيرا كثيرا ، ويكون ذلك منهم سفه ، حتى إذا كسروا المودة كسر الزجاج وندموا على ذلك ، وأرادوا استدراك ما لا سبيل لاستدراكه فاتهم الأوان .
وأمثال هؤلاء من يفرطون في قرابة أو صداقة أو زمالة ... ،لا يقدرون قيمتها ولا يرعونها حق رعايتها بسبب لحظة سفاهة أو طيش أو غضب أو سوء ظن أو وشاية كاذبة ...فيمضي عليهم زمن يستعيدون بعده حلمهم ، ويفكرون في إصلاح ما أفسدوه أو جبر ما كسروه ، فلا يستطيعون إلى ذلك سبيلا ، ويندمون شديد الندم ولات حين مندم على ما فوتوا على أنفسهم ، وعلى ما ضاع منهم ، ولا سبيل لتداركه .
وأمثال هؤلاء من يضيعون فرص دراسة أو عمل أو سفر أو تجارة ... زاهدين في ذلك لحظة سفه أو طيش أو غرور منهم حتى إذا عادوا إلى رشدهم وصوابهم ندموا على ما كان منهم ، فضاع كل جهد بذلوه لتدارك ما فاتهم .
وأمثال هؤلاء من فرطوا في نعمة صحتهم لحظة سفه وطيش حتى إذا ذهب الله عز وجل بنعمتهم ندموا على تفريطهم ، والتمسوا استعادة ما ضاع منهم بعلاج بلا طائل ولا فائدة ، ولم يستدركوا ما لا سبيل إلى استدراكه ، وقتلهم الندم قبل العلل ومن الندم ما يقتل .
وشر من كل هؤلاء من فرطوا في دينهم وغرتهم الحياة الدنيا وزينتها ، وسوفوا فضاعت أعمارهم حتى جاء أجلهم وغرغروا وقد بلغت الحلقوم ، ندموا على تفريطهم ، وأعلنوا توبة لا تنفع ساعتئذ ، ولا تشفع ، ورحلوا وهم في غبن لا مثيل له.
كل هؤلاء لو أنهم وقفوا في حياتهم لحظة اعتبارعند مثل عمرو بن عدس : " في الصيف ضيّعت اللبن " لما ضاع منهم لبن .وما أكثر الألبان الضائعة في الصيف، وما أكثر من تضيع منهم . ومن الأمثال الشعبية المغربية قولهم : "لي نفخ في اللبن يشتاقو " ، وهو يعني من فرط في اللبن اشتاق إليه . وقد يكون قائل هذا المثل قد نظر في مثل عمرو بن عدس فصاغ مثله على مثله .
وسوم: العدد 831