حكايات التراث بين المرفوض والمقبول
حيدر قفه
كان الناس في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مهيئين للتلقي عنه مباشرة، فقد كان الوحي ينزل عليه صباحاً ومساءً، وهو (صلى الله عليه وسلم) ينقل إليهم أوامر الله تعالى ونواهيه، فيشرحها ويوضحها، كما ينزل القرآن بقصص الغابرين ومصارع الجبارين للعبرة والتسرية عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وشد أزر من آمن معه... ولقد كانوا غير محتاجين لأكثر من ذلك، ولذا انحصر مصدر حياتهم ومرجعيتهم في العبادة في أمرين: أوامر الله تعالى ونواهيه وتوجيهاته في قرآن يتلى، وإرشادات الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتوجيهاته، وهي مؤيدة بوحي من الله تعالى أيضاً: (ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ)([1])، فاكتفوا بهذين المصدرين، ولهم في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسوة حسنة، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً.
حتى ما كان يصلهم من قصص الأولين عن طريق غير القرآن، كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يخبرهم ببعضها، وخبره صحيح لما تقدم في سورة النجم، وبعض هذه القصص كانت تتسرب إليهم من أهل الكتاب، فكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يُسال عنها، فيقبل بعضها – وهو الصحيح – ويرفض بعضها – وهي الأكاذيب وما عرف بعدُ بالإسرائيليات وهي التي يجب التوقف عندها والحذر من مغشوشها.
إذن، فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يقود مسيرتهم، والوحي لا ينقطع عن الأرض كما قال أحمد شوقي: "جبريلُ رَوَّاحٌ بها غَدَّاءُ "([2])، وهم في طمأنينة في ظل القيادة النبوية والتوجيه الرباني المستمر، فكان تطبيقهم للإسلام محفوفاً بهاتين الرعايتين.
ولقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا شعر بالخوف في التصور أو التطبيق تهاوناً أو مغالاة بادر إلى التصحيح، وتصويب المسيرة، فعن جابر بن عبد الله (t) أن عمر بن الخطاب (t) أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه النبي (صلى الله عليه وسلم) ([3]) فغضب، فقال: "أمتهوكون([4]) فيها يا ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى (صلى الله عليه وسلم) كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني"([5])، وهذا عزل ثقافي ومعرفي في مجال حماية الأتباع من المؤثرات الخارجية في بداية الطريق، حتى تترسخ أقدامهم وتشتد أعوادهم في العقيدة الجديدة.
ولما بلغه أن نفراً من أصحابه أرادوا المغالاة في العبادة تقرباً إلى الله، بما لم يأذن به الله، ولا سَنَّهُ لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبما يخالف الفطرة، وتعجز عنه القدرة؛ ردهم إلى الصواب. فعن أنس (t) قال: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) يسألون عن عِبادةِ النبي (صلى الله عليه وسلم)، فلما أُخبروا بها كأنهم تقالُّوها؛ فقالوا: أين نحن من النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقد غَفَرَ الله له ما تَقَدَّم من ذَنْبِه وما تأخر؟! فقال أحدُهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً. وقال الآخرُ: أنا أصومُ النهارَ أبداً ولا أُفطر، وقال الآخرُ: أنا أعتزلُ النساءَ فلا أتزوج أبداً، فجاء النبي (صلى الله عليه وسلم) إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأَخْشَاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"([6]).
انتهى عصر النبي (صلى الله عليه وسلم) ومسيرة المسلمين تحفها رعاية الله بالوحي المنزل حسب الحوادث والحاجات، وعين النبي (صلى الله عليه وسلم) التي لا تغمض على خطأ، حتى إذا مات النبي (صلى الله عليه وسلم) وانقطع الوحي من السماء، شعر المسلمون بالضياع([7]) إلا أن وجود القرآن بينهم، وسنة النبي (صلى الله عليه وسلم) بين ظهرانيهم، وعدد كبير من علماء الصحابة كان يطمئنهم ويخفف عنهم ما يجدون من هَمِّ فَقْدِ النبي (صلى الله عليه وسلم).
عصر الراشدين والأمويين:
كان الصحابة (رضوان الله عليهم) في هذين العصرين متوافرين، وهم قد شربوا هذا الدين من نبعه الصافي، وهم ليسوا في حاجة لقصة أحد حتى يقتدوا بها، فعندهم من تراث النبي (صلى الله عليه وسلم) وتعلقهم بسيرته ما أغناهم عن البحث عن قصص هنا أو هناك، فاقتصروا على القرآن، والسنة، وسيرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ)([8]) ، ومواقف ومشاهد بعضهم بعضاً.
في العصر العباسي إلى يومنا هذا:
أما في العصر العباسي فقد اختلف الأمر، إذ كثرت الفتوحات الإسلامية، واتسعت رقعة الدولة، ودخلت شعوب كثيرة في الإسلام، ومع هذه الشعوب حضارات وثقافات وموروثات كثيرة، وكان الإسلام قد مضى عليه قرابة مئة وخمسين سنة، فيها ما فيها من قصص الصالحين، ومواقف المجاهدين، وتجليات العارفين، وصبر العابدين... فأصبح مصدر التَّـدَيُّنِ:
1- القرآن الكريم.
2- الأحاديث النبوية الشريفة.
3- سيرة المصطفى (صلى الله عليه وسلم).
4- قصص بعض الصالحين لا سيما الصحابة والتابعين ثم الزهاد.
وامتد الزمن إلى يومنا هذا، فدخلت حكايات كثيرة عن أهل الفضل والزهد والتقوى والورع، وكان لهذه الحكايات أثرٌ كبيرٌ في حياة الناس، ذلك أن هذه القصص والحكايات ذات تأثير عميق في نفوس الناس، لا سيما عند من لم ينل حظاً من التعليم، وأقصد بهم العوام والسواد الأعظم من الناس. كما أن القصص والحكايات أحب وألصق بالقلب عند هؤلاء الناس، بل ربما تفوق القرآن والأحاديث النبوية عندهم، لديمومتها في عقولهم، ولصوقها بأفئدتهم، وسهولة استحضارها من ذاكرتهم، حيث تغوص في أعماق النفس عندهم، لسهولة إدراكها. وقد ذكر الإمام الذهبي في كتابه
"الكبائر" القصة التالية. "حكاية" قال صالح المري: كنت ذات ليلة جمعة بين المقابر، فنمت، وإذا بالقبور قد شققت، وخرج الأموات منها، وجلسوا حِلقاً حِلقاً، ونزلت عليهم أطباق مغطية، وإذا فيهم شاب يعذب بأنواع العذاب من بينهم، قال: فتقدمت إليه وقلت: يا شاب، ما شأنك تعذب من بين هؤلاء القوم؟! فقال: يا صالح، بالله عليك، بلغ ما آمرك به، وأد الأمانة، وارحم غربتي، لعل الله عز وجل أن يجعل على يديك مخرجاً: إني لما مت، ولي والدة جمعت النوادب والنوائح يندبن عليّ وينحبن كل يوم، فأنا معذب بذلك، النار عن يميني وعن شمالي وخلفي وأمامي، لسوء مقال([9]) أمي، فلا جزاها الله عني خيراً، ثم بكى حتى بكيت لبكائه. ثم قال: يا صالح، بالله عليك، اذهب إليها فهي في المكان الفلاني – وعلم لي المكان – وقل لها: لم تعذبي ولدك يا أماه، بئسما ربيتني، ومن الأسواء وقيتني، فلما مُتُّ في العذاب رميتني.
يا أماه، لو رأيتني: الأغلال في عنقي، والقيد في قدمي، وملائكة العذاب تضربني وتنهرني، فلو رأيتِ سوء حالي لرحمتني، وإن لم تتركي ما أنت عليه من الندب والنياحة، الله بيني وبينك، يوم تشقق سماء عن سماء، ويبرز الخلائق لفصل القضاء. قال صالح: فاستيقظت فزعاً، ومكثت في مكاني قلقاً إلى الفجر، فلما أصبحت دخلت البلد، ولم يكن لي هَمٌ إلا الدار التي لأم الصبي الشاب، فاستدللت عليها، فأتيتها، فإذا بالباب مسدود، وصوت النوادب والنوائح خارج من الدار، فطرقت الباب؛ فخرجت إليَّ عجوزٌ، فقالت: ما تريد يا هذا؟ فقلت: أريد أم الشاب الذي مات، فقالت: وما تصنع بها؟ هي مشغولة بحزنها، فقلت: أرسليها إليّ، معي رسالة من ولدها، فدخلتْ، فأخبرتها، فخرجتْ أمٌ وعليها ثياب سود، ووجهها قد اسودَّ من كثرة البكاء واللطم، فقالت لي: من أنت؟ فقلتُ: أنا صالح المري، جرى لي البارحة في المقابر مع ولدك كذا وكذا، رأيته في العذاب، وهو يقول: يا أمي ربيتني، ومن الأسواء وقيتني، فلما متُّ في العذاب رميتني، وإن لم تتركي ما أنت عليه، الله بيني وبينك، يوم تشقق سماء عن سماء.
فلما سمعت ذلك غشي عليها، وسقطت إلى الأرض، لما أفاقت بكت بكاءً شديداً، وقالت: يا ولدي يعز عليّ، ولو علمت ذلك بحالك ما فعلت، وأنا نائبة إلى الله تعالى من ذلك. ثم دخلت وصرفت النوائح، ولبست غير تلك الثياب، وأخرجت إليَّ كيساً فيه دراهم كثيرة، وقالت: يا صالح، تصدق بهذه عن ولدي. قال صالح: فودعتها... ([10]) وانصرفت، وتصدقت عن ولدها بتلك الدراهم. فلما كان ليلة الجمعة الأخرى، أتيت المقابر – على عادتي – فنمت، فرأيت أهل القبور قد خرجوا من قبورهم، وجلسوا على عادتهم، وأتتهم الأطباق، وإذ ذاك الشاب ضاحك، فرح، مسرور، فجاء أيضاً طبق فأخذه، فلما رآني جاء إليّ فقال: يا صالح، جزاك الله خيراً، خفف الله عني العذاب، وذلك بترك أمي ما كانت تفعل، وجاءني ما تصدقت به عني. قال صالح: فقلت: وما هذه الأطباق؟! فقال: هذه هدايا الأحياء لأمواتهم من الصدقة والقراءة والدعاء، ينزل عليهم كل ليلة جمعة، يقال له: هذه هدية فلان إليك، فارجع إلى أمي، وأقرئها مني السلام، وقل لها: جزاها الله عني خيراً، قد وصل إليَّ ما تصدقت به عني، وأنتِ عندي عن قريب فاستعدي. قال صالح: ثم استيقظت، وأتيت بعد أيام إلى دار أم الشاب، وإذا بنعش موضع على الباب. فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لأم الشاب، فحضرت الصلاة عليها، ودُفنت إلى جانب ولدها بتلك المقبرة، فدعوت لهما وانصرفت([11]).
والحكاية كما هو واضح واهية جداً، والأحلام لا تنبني عليها أحكام، والفعل فيها مخالف للسنة، فالميت لا يعذب ببكاء أهله عليه، ولا يؤاخذ بفعل أهله من بعده، ما لم يأمر بذلك قبل موته أو يرضاه، لقوله تعالى: (ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ)([12]) ، لكن وجه الدلالة فيها، أن هذه الأم تأثرت بها – لجهلها بالإسلام وتعلقها بالأوهام – فكفت عن النواح ولطم الخدود... وهي أمور منهي عنها.
وكتب التراث مليئة بمثل هذه الحكايات، وقد اختلط فيها الغث بالسمين، وخطورتها في أن بعض الناس يتعلق بمثل هذه الحكايات، ويعتبرها مصدراً أساسياً في السلوك، ظناً منه أنها الإسلام بعينه، ويتخذ من أصحابها قدوة له، واضعاً الإسلام الصحيح بنصوصه من القرآن والسنة الصحيحة دُبر أذنيه، وهنا مكمن الخطر، لأنه يتولد من مثل هذه الحكايات تيار ضال من المسلمين، لذا وجب التنبيه على هذه الحكايات، وبيان زيفها، وخطورتها على سلوك الناس، أو تكوين خلفيتهم المرجعية في الحكم على الناس. وسنحاول في هذه المقالة إيراد بعض الحكايات من كتب التراث المعتبرة، وبيان المرفوض منها والمقبول، مع مناقشتها وبيان حيثيات القبول والرفض.
نماذج من الحكايات المفروضة مع مناقشتها
أ- أورد ابن كثير في فضائل القرآن الحكاية التالية، بعد أن صَدَّرَها بعبارة "ومن أغرب ما ههنا": إن سُلَيْم بن عِتْر التُّجِيبي كان يقرأ القرآن في ليلة ثلاث مرات، ويجامع ثلاث مرات، قال الراوي بكر بن مضر: فلما مات قالت امرأته: رحمك الله، إن كنت لترضي ربك، وترضي أهلك، قالوا: وكيف ذلك؟ قالت: كان يقوم من الليل فيختم بالقرآن، ثم يُلم بأهله، ثم يغتسل، ويعود فيقرأ حتى يختم، ثم يلم بأهله، ثم يغتسل، ويعود فيقرأ حتى يختم، ثم يلم بأهله، ثم يغتسل، ويخرج إلى صلاة الصبح([13]).
هذه الحكاية واهية من وجوه، ولو طبقنا عليها المنهج النفسي، والمنهج النقلي، والمنهج العقلي، والمنهج الاجتماعي لوجدنا تهافتاً وسقوطاً.
فالرجل يقول عنه ابن كثير: كان ابن عتر تابعياً جليلاً، ثقةً، نبيلاً، وكان قاضياً بمصر أيام معاوية وقاصها([14]) ويقول عنه الذهبي: الإمام الفقيه، قاضي مصر، وواعظُها، وقاصُّها، وعابدها... وكان يدعي الناسك لشدة تألهه([15]) ومن كان هذا شأنه لا تصح هذه الحكاية بحقه من وجوه:
1- فمن الناحية النفسية يستحيل على العابد أن يكون قلبه مشغولاً بالوصال، ومن كان قلبه مشغولاً بالوصال يستحل عليه الانصراف للعبادة بكل ما يلابسها من تجليات نورانية، وقد قال الله تعالى: (ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ) ([16]) .
2- وأن هذا الرجل عالم قاص فقيه، ومن كان هذا حاله لا يغفل عن السُّنة في قراءة القرآن، وقد مَرّ به قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث" ([17]).
3- ومن الناحية العقلية فالحكاية مرفوضة، ذلك أن الرجل كما وُصِفَ ناسك عابد، ومن كان هذا شأنه تكون صلاته بخشوع تام، ولا يكون الخشوع إلا بالتأني والتؤدة والهدوء لارتباط الأعضاء والحواس بالقلب والعقل. ومن كانت صلاته هكذا فالركعة تستغرق معه أزيد من خمس دقائق، والجزء لو قرئ هذرمة يستغرق نصف ساعة فكيف وهو عابد خاشع متأله؟ ولو أننا قبلنا الحكاية، ووافقنا أنه يختم الجزء من القرآن في نصف ساعة – هذا دون ركوع وسجود – لاستغرقت الختمة معه خمس عشرة ساعة – هذا دون الجماع والاستحمام – فالثلاث ختمات يستغرقن خمساً وأربعين ساعة، والليل – بعد صلاة العشاء إلى الفجر – لا يزيد عن خمس عشرة ساعة في أطول أطواله، هذا إذا أغفلنا التهيء النفسي الذي يسبق الأمرين – القيام والجماع – ولكل من منهما تهيؤ من نوع خاص يتعارض تماماً مع الآخر... لكل هذه الأسباب الحكاية واهية بل ممتنعة عقلاً ومنطقاً.
4- وأما من الناحية الاجتماعية، فهذه امرأة عالم، قاص، فقيه... ومن كانت في مثل هذا البيت تكون قد تعلقت من العالم بشيء، ومن الخُلُقِ الإسلامي بأشياء، ومثل هذه لا يصح أن تذكر للأخريات أمر الجماع بهذه الصورة، فالحرائر يترفعن عن هذا الهبوط، فضلاً عن منافاته لخلق المسلمة الراعية في بيت زوجها الأمينة على أسراره.
لكل الأسباب المتقدمة فالحكاية مرفوضة، وقد حَمَدْتُ لابن كثير
تصديره للحكاية بعبارة "ومن أغرب ما ها هنا" وللدارقُطْني بصيغة التضعيف "وروي عنه"([18]) وكنت أتمنى أنها لم ترد أصلاً في مثل هذين الكتابين الجليلين وغيرهما من الكتب التي يُعْتَدُّ بها، لا سيما والحكاية لا ينبني عليها فِعْل أو أُسوة تُحاكى، فإيرادها من اللغو والحشو.
ب- وأورد ابن الجوزي في كتابه "صفة الصفوة" الحكاية أو الخبر التالي: "عن أبي جعفر قال: كان علي بن الحسين – رحمه الله – يصلي في كل يومٍ وليلةٍ ألف ركعةٍ وتهيج الريح فيسقط مغشياً عليه"([19]).
وهذه حكاية مرفوضة أيضاً، وكل خبر أو حكاية مثلها مرفوضة أيضاً، فعليٌّ هذا هو زين العابدين، وما عُرف بهذا إلا لِـحُسْنِ عبادته وخشوعه وتبتله مما يستحيل مع هذا الوصف أن تكون صلاته كنقر الغراب أو التفاتة الثعلب، وهي صلاة المنافقين. بل، وهو يعلم أن جده (صلى الله عليه وسلم) كان إذا تنفل من الليل أطال الصلاة([20]).
ولو افترضنا جدلاً أنه لم يطل صلاته كرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكانت صلاته كصلاة سائر الناس، لكانت الركعة تستغرق معه دقيقتين، ومعنى هذا أن الألف ركعة تستغرق ألفي دقيقة، واليوم كله 1440 (ألف وأربعمئة وأربعون) دقيقة أي أن صلاته تستغرق أكثر من يوم وثلث اليوم، هذا إذا افترضنا أنه لا يأكل ولا يشرب ولا يخرج إلى الصلاة ولا يكلم أحداً ولا... ولا... ولا... وهذا مستحيل عقلاً وعرفاً، وهو مخالف للسنة، لأنه تتعطل معه الحياة، ويُضيع حقوقَ الآخرين عنده. فالقصة أو الحكاية مرفوضة من أساسها.
جـ- أورد أبو حامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" قول السَرِيِّ السَّقَطِيِّ أنه رأى مع عليٍّ الجُرجاني سويقاً (مطحون الحنطة أو الشعير) يستف منه، فقلت: ما حملك على هذا؟ قال: إني حسبت ما بين المضغ إلى الاستفاف سبعين تسبيحة، فما مضغت الخبز منذ أربعين سنة " ([21]).
ولنا على هذه الحكاية ثلاث وقفات:
الأولى: أنه ورع بارد، وخروج عن السُّنَّة، فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا وجد طعاماً أكل، وإن لم يجد صام، وكانت تُعجبه الذراع من اللحم، وكان ينهس منها نهساً بأسنانه دون أن يقطع بسكين، كما ورد في حديث أبي هريرة (t) ([22]).
الثانية: أن هذا الفعل تَنَطُّعٌ وخروج عن الفطرة، فالله خلق الأسنان لحكمة، فاستغنى عنها هذا – غفر الله له – والله غنيٌّ عن تعذيب هذا وأمثاله لأنفسهم باسم الورع أو العبادة، وهو اجتهاد منه – رحمه الله – في غير محله.
الثالثة: لم يكن ورع النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه على هذه الشاكلة من مصادمة الفطرة، وعليّ هذا ليس أورع من النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا أصحابه، ولا أعلم منه ومنهم بما يرضي الله. وقد كانوا يأكلون ويشربون ويمضغون ويمزحون ويلعبون وينكحون... وكانوا أورع الناس، بل كانوا الجيل المتفرد في التاريخ الذي لن يجود بمثلهم أبداً.
فالحكاية مرفوضة أيضاً، ويسع المسلمون ما وسع الصحابة من اقتدائهم برسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وهذه الحكايات وأمثالها قد تؤدي – بل أدت -إلى انحراف في السلوك والحياة، لا سيما عند من كانت بضاعتهم من العلم قليلة، وكم ضل شباب قرأوا مثل هذه الحكايات فاتخذوها نبراساً ونمطاً في الحياة، فأصابهم العنت وعجزوا بعدما أضاعوا أوقاتاً ثمينة في حياتهم، وأعمالاً كانت تتطلب غير هذا النهج المخالف للسنة.
والقراءة في مثل هذه الكتب التي تكثر من رواية هذه الحكايات في حاجة لملازمة أستاذ أو شيخ، حتى يوضح غثها من سمينها، وصحيحها من سقيمها، فلا يقع الشاب في مغالاة أو إفراط، فتجفوه الحياة، ويعيش غريباً في غير غربة شرعية، فيضيق صدره بالحياة والناس، ويضيقون هم به أيضاً.
حكايات مقبولة
أ- أورد أبو حامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" الحكاية التالية: حُكي عن بعض أصحاب أحمد بن حنبل رحمه الله أنه كان يتردد إليه سنين، ثم اتفق أن أعرض عنه أحمد وهجره، وصار لا يكلمه، فلم يزل يسأله عن تغيره عليه، وهو لا يذكره، حتى قال: بلغني أنك طينت حائط دارك من جانب الشارع، وقد أخذت قدر سُمك الطين – وهو أنملة – من شارع المسلمين، فلا تصلح لنقل العلم".
والحكاية – كما هو واضح – معقولة مقبولة، فالإمام أحمد بن حنبل – عليه رحمة الله – معروف بالورع، وله في ذلك مواقف لا تغفل، وحوادث لا تنكر حتى أنه كان يقطع صلته بأقرب الناس إليه من أهله إن رابه منه ريب، أو داخلته شبهة حرام، فكيف بتلميذ من تلاميذه؟!!
كما أن السف الصالح من العلماء كانوا لا يكتفون بتلقين العلم، بل يراعون أحوال تلاميذهم، فيتفقدونهم في طعامهم وشرابهم وزواجهم وأبنائهم، وذلك لطول المعاشرة، فيكتسب الواحد من هؤلاء التلاميذ العلم والخلق الذي ينسرب إليه من ملاصقة شيخه.
وكما هو ملاحظ من الحكاية، فإن التلميذ هنا كان رجلاً كبيراً، فهو يملك بيتاً، ويقرر تطيينه، ويباشر هذا، فهو مسؤول مسؤولية كاملة عن أفعاله، ومن كان هذا شأنه لا بد أن يكون مدركاً للصواب والخطأ، فإذا أضفنا إلى ذلك طلبه العلم،والذي سيؤهله للتعليم مستقبلاً، فكيف يُنْقل عنه العلم وهو ليس ورعاً، ولا يُؤتمن جانبه، فإنَّ من لا يؤتمن على قدر أُنملة من طين الشارع، لا يؤتمن على سُنة المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، ولا على ميراث الأنبياء.
إن هذا التلميذ – وهو رجل كبير ناضج – قد تعدى على ما ليس له بحق – وهو ما يخص المسلمين جميعاً – فلا يجوز له هذا، وهنا بيت القصيد، وهو التأديب في الحفاظ على المال العام، وعدم أخذ ما ليس له بحق.
كما أن أحمد – رحمه الله – هنا معلم يرشد تلميذه، أو شيخ يوجه مُريده، أو أب ينصح ويؤدب ولده، فالحكاية غير ممتنعة عقلاً وشرعاً، فهي مقبولة.
ب- أورد ابن كثير في كتابه البداية والنهاية([23]) حكاية حدثت مع عبد الله بن المبارك وهي كالتالي: "خرج (أي عبد الله بن المبارك) مرة إلى الحج، فاجتاز ببعض البلاد، فمات طائر معهم، فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه، وتخلف هو وراءهم، فلما مَرَّ بالمزبلة، إذا بنت قد خرجت من دار قريبة منها، فأخذت ذلك الطائر الميت، ثم لفته وأسرعت به إلى الدار. فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة، فقالت: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يُلقى على هذه المزبلة، وقد حَلَّت لنا الميتة منذ أيام، وكان أبونا له مال فظُلم وأُخذ ماله وقُتل. فأمر برد الأحمال، وقال لوكيله: كم معك من النفقة؟ قال: ألف دينار، فقال: عُدَّ منها عشرين ديناراً تكفينا إلى مرو([24]) وأعطها الباقي، فهذا أفضل من حجنا في هذا العالم، ثم رجع".
والحكاية مقبولة، فعبد الله بن المبارك أمير المؤمنين في الحديث كان عالماً تقيَّاً ورعاً، وكان تاجراً صدوقاً غنياً، تجمعت فيه خصالٍ من الخير قلما نجدها تجمعت في غيره، وكان إذا ربح من تجارته أخذ رأس المال، ونفقة عياله لسنة، ثم وزع الباقي على أهل العلم والصلاح. وكان إذا نوى الحج أعلن ذلك، فمن رغب في مرافقته أنفق عليه طوال مدة الرحلة، ثم إذا عاد إلى مرو أعاد لكل مرافق له ما دفع قُبيل الرحلة...
والحكاية ورد مثلها الكثير في مجال العوز، وعدم وجود الثياب إلا ثوب واحد يتعاقب عليه أهل البيت، والبنت على علم بدينها حتى تعرف متى تحل لها الميتة؟ وهي من أهل العفاف والصبر، ونعمت هذه الصفات.
وعبد الله بن المبارك عالم محدث فقيه، يعلم أن الأكباد الجائعة أحق بالصدقات من البيت الحرام، ويعلم أن إطعام المساكين والمعوزين – لهذه الدرجة – أولى من تكرار الحج كل عام.
فالحكاية من الناحية العقلية والنقلية والشرعية غير ممتنعة، وفيها عبر كثيرة، ودروس أكثر، ولذا فهي مقبولة.
جـ- أورد الشيخ محمد الحامد (رحمه الله) في كُتيبه: "رحمة الإسلام للنساء"([25]) الحكاية التالية: " أنه في سنة 286هـ تقدمت امرأة إلى قاضي الري، فادعى وليها على زوجها خمس مئة درهم مهراً لها، فأنكر الزوج، فقال القاضي للمدعي: شهودك!! قال: قد أحضرتهم. فاستدعى بعض الشهود أن ينظر للمرأة ليشير إليها في شهادته (وهذه ضرورة تقدر بوقت الشهادة فقط كما هو مقرر في الفقه)([26]). فقام وقيل للمرأة قومي، فقال الزوج: تفعل ماذا؟ فقال الوكيل: ينظرون إلى امرأتك وهي مسفرة (الوجه) ليصح عندهم معرفتها. فقال الزوج: إني أُشهد القاضي أن لها عليَّ هذا المهر الذي تدعيه ولا تُسفر عن وجهها. فردَّت المرأَة وأخبرت بما كان من زوجها فقالت: إني أُشهد الله والقاضي أني قد وهبت له هذا المهر، وأبرأته منه في الدنيا والآخرة. فقال القاضي: يُـكتب هذا في مكارم الأخلاق".
والحكاية هنا مقبولة عقلاً، وغير ممتنعة عرفاً، وهي تدل على نوع الخلافات التي كان القضاء يحسم فيها، كما تدل على السلوك الاجتماعي في ذلك الزمن، وتبين مدى غيرة الرجل على زوجته – وإن كانت وإياه في حالة خصام مفضي إلى طلاق وفصام – كما تدل على تقدير المرأة لغيرة زوجها، واحترامها لهذه المروءة البكر التي لم تُنَهْنِهُهَا مفسدات حضارات أخرى وافدة... إلخ هذه الدلالات كلها. فالقصة صالحة وغير مرفوضة إذن.
* * *
ومن خلال السرد السابق، يتبين لنا أن الحكايات الواردة في التراث منها المرفوض وهو الذي لا يقره شرع، ولا يقبله عقل، ويصطدم مع السُّنة، ويخالف الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ومنها ما هو مقبول لمجمل ما ذكرنا آنفاً.
كما أن الحكايات هذه لها دور كبير في التأثير على الناس، وتكوين خلفيتهم الثقافية، ومِنْ ثَمَّ السلوكية التي تتمثل هذه الحكايات على اعتبار أنها نماذج تحاكى، وأصحابها قدوات يُتأسى بهم. لذا وجب الحيطة والحذر عند سماع أو قراءة بعض هذه الحكايات، ومن ثم دراستها وفحصها وقبول الجيد منها، ورد الغث المتهافت.
([1]) النجم: 3-4.
([2]) من قصديته الهمزية التي مطلعها:
ولد الهدى فالكائنات ضياء |
|
وفم الزمان تبسم وثناء |
وصدر البيت الآنف الذكر: والآي تترى والخوارق جمة... الديوان 1/35.
([3]) أي قُرِئ عليه، فقد كان (صلى الله عليه وسلم) أمياً لا يقرأ بنص القرآن، وقرأ هنا بمعنى علم ما فيه، أو يكون الضمير المستتر في الفعل عائد إلى عمر، والهاء للكتاب، والمقروء عليه النبي (صلى الله عليه وسلم).
([4]) متشككون.
([5]) رواه أحمد، المسند 3/387.
([6]) متفق عليه. مشكاة المصابيح 1/52 رقم 145.
([7]) عن أنس قال: قال أبو بكر (t) بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، كما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يزورها. فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها: ما يُبكيك؟ ما عند الله خير لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء. فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها " صحيح مسلم 4/1907 رقم 103.
([8]) الأحزاب: 21.
([9]) لعلها فعال، وهي أليق بالمقام.
([10]) مكان النقط وجدت كلمة (وردت لها) ولم أجد لها معنى في سياق الحكاية.
([11]) كتاب الكبائر للإمام الذهبي، الكبيرة التاسعة والأربعون، والحكاية ص 215 – 216.
([12]) الأنعام: 164.
([13]) تفسير ابن كثير 7/505.
([14]) تفسير ابن كثير 7/505.
([15]) سير أعلام النبلاء 4/131-132.
([16]) الأحزاب: 4.
([17]) رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح. انظر التاج الجامع للأصول 4/13 وانظر إن شئت "مدة ختم القرآن" في كتابنا مع القرآن الكريم ص149-155.
([18]) سير أعلام النبلاء 4/132.
([19]) صفة الصفوة 2/100 ومن يقرأ كتب التراجم مثل سير أعلام النبلاء، وصفة الصفوة، وطبقات الصوفية، والمنهج الأحمد، والتاج المكلل... وغيرها سيجد الكثير من الحكايات عمن يصلون في اليوم والليلة ألف ركعة!!.
([20]) حديث حذيفة (t) في صلاته مع النبي (صلى الله عليه وسلم) وقراءته البقرة والنساء وآل عمران في ركعة رواه مسلم. رياض الصالحين ص 432 باب فضل قيام الصلاة.
([21]) إحياء علوم الدين 3/86، وإعجاب الغزالي – رحمه الله – بفعله هذا مردود لأنه مخالف للسنة.
([22]) الحديث متفق عليه. اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان 1/49 رقم 120.
([23]) البداية والنهاية 10/178 نقلاً عن كتاب (عبد الله بن المبارك) لمحمد عثمان جمال ص 210.
([24]) مدينة بخرسان خَرَّجت عدداً من العلماء.
([25]) ص 60.
([26]) القول هنا للشيخ محمد الحامد – عليه رحمة الله -.