مؤامرة كبرى اسمها التنوير

د. أحمد محمد كنعان

لم يتوقف أعداءُ الله عبر التاريخ محاربين  للدين والأنبياء والرسل والمؤمنين، ويتفننُ هؤلاء الأعداءُ في كلِّ عصرٍ بما توافر لهم من وسائلِ الحرب والعداء.

وقد اشتدت عداوة هؤلاء في أيامنا الحاضرة، بما توافر له من أدوات فعالة، وجهات كبرى تدعمهم وتجدد مكرُهم وتوحدُ قواهم لضربِ الإسلام والمسلمين خاصة !

ومن خلال رصدنا لهذه الظاهرة عبر التاريخ وحتى عصرنا الراهن لاحظنا الحقائق الآتية :

1 – أن العداءُ والمكر للدين كان ظاهرة موجودة في مختلف الأمم والأزمنة، لحكمة أرادها الله عز وجل : (وَكَذَلِكَ جَعَلنَا فِي كُلِّ قَريَةٍ، أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِم وَمَا يَشعُرُونَ) سورة الأنعام 123 .

2 - هذا المكرُ والعداءُ للدين يتعاونُ عليه شياطينُ الإنس والجن : (وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ، عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعضُهُم إِلَى بَعضٍ، زُخرُفَ القَولِ غُروراً) سورة الأنعام 112. 

3 – على الرغم من تهافت هذا المكرُ فإنه يجد من ضعاف الإيمان من يصغي إليه ويصدقه، بل ويشارك فيه (وَلِتَصغَى إِلَيهِ أَفئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرضَوهُ وَلِيَقتَرِفُوا مَا هُم مٌّقتَرِفُونَ) سورة الأنعام 113 .

4 – إلا أن هذا الكيدُ والمكرُ والتآمر مهما بلغَ شانُهُ واجتمع لهُ الخصومُ فإن مآله الفشل بقدر الله تعالى وتقديره : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) سورة الأنفال 30 ، فاللهُ عز وجل لهم بالمرصاد، فهو يُدافع عن دينه، وعن أوليائهِ المؤمنين، ويحفظُهم من مكرِ الأعداء، ويحبط كيدهم وتدبيرهم (وَلَا يَحِيقُ المَكرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهلِهِ) سورة فاطر 43 .

5 - والله عز وجل قد يمهل الظالمَ لكنه لا يفلته، بل يأخذه أخذاً شديداً ولو بعد حين : (وَكَذَلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) سورة هود 102.

هكذا نجد أن المعركة ضد الدين قديمة قدم التاريخ البشري، ونعلم أن أعداء الإسلام منذ اليوم الأول لظهوره لم يتوقفوا عن محاولات النيل منه، وتشويهه، والتشكيك بثوابته ومسلماته ..

من العشوائية إلى التخطيط :

وقد بدأت محاولات النيل من الإسلام بصورة عشوائية مرتجلة، وذلك بالتشكيك في نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم فاتهمه أعداؤه بالجنون "قَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ" سورة الحِجر 6 ، واتهموه بالشعر "بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ" سورة الأنبياء 5 ، واتهمه آخرون أن علمه ليس وحياً من الله عز وجل، وإنما هو مأخوذ من بعض أحبار اليهود والنصارى "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ" سورة النحل 103 ، بل اتهمه بعضهم أنه يقتبس القرآن من الحكايات والأساطير القديمة "وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا" سورة الفرقان 5 .

هكذا كانت محاولات التشويه قديماً تجري بصورة عشوائية أما اليوم فقد صارت تمضي بصورة منظمة، برعاية دول غنية تدفع لأدعياء التنوير بلا حساب، وتحتضنهم إعلامياً فتجعل منهم نجوم الشاشات ورموز العلم، ولا يتوقف الدعم عند هذا الحد، بل نجد منظمات الاستشراق العالمية ومراكز البحوث المخابراتية تزود هؤلاء الأدعياء بالخبرات والمعلومات اللازمة، وتتولى نشر أعمالهم بعد أن تخلع عليهم الألقاب العلمية الطنانة للمزيد من الترويج وذر الرماد في العيون !

ومن خلال رصدنا لهذه الظاهرة، والاستماع لأدعياء التنوير الذين رضوا الانخراط في هذه المؤامرة الكبرى، ومن خلال قراءة ما ينشرون، وجدنا أن كل دعاوى التنوير الراهنة تستهدف هدفاً أساسياً هو الطعن بالقرآن الكريم، لكنهم ساروا نحو هذا الهدف بصورة غير مباشرة على طريقة (أكل ديل السمكة وصولاً إلى رأسها) حسب تعبير أحدهم، ورأس السمكة المستهدف هو القرآن الكريم، وما عداه  من نقد للأحاديث النبوية أو للتراث الإسلامي ما هو إلا مراحل للوصول إلى هذا الهدف، والغرض من هذه المراحل هو تحضير العقل المسلم للمرحلة النهائية والهدف الأساس الذي هو التشكيك بالقرآن الكريم ونزع القداسة عنه !

أصل المؤامرة ومصدرها :

وكما أن الجراثيم والطفيليات تحتاج بيئة قذرة لتنمو وتتكاثر فيها، فقد اختار سدنة هذه المؤامرة الكبرى التي تتستر بالتنوير بيئة لتحريف القرآن هي البيئة الباطنية المجوسية التي تقوم عقيدتها على فكرة تحريف القرآن الكريم، التي أسسها لها المحدث الشيعي حسين النوري الطبرسي وهو من أبرز علماء الشيعة الإمامية في القرن السادس الهجري، وذلك في كتابه "فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب" وهو يؤسس فكرة التحريف على الزعم بأن مسألة الإمامة والولاية، كانت مذكورة في القرآن الكريم، لكن حذفها أهل السنة (؟!)

وهكذا .. نجد أن فكرة تحريف القرآن الكريم هي فكرة باطنية مجوسية خالصة، ولكي تنتشر بين بقية المسلمين، احتاجت بعض التطوير، أو لمسة تنويرية إذا صح التعبير، ولهذا نجد أدعياء التنوير يسندون دعاوى التحريف لا إلى الكتاب المذكور ولا إلى الباطنية، بل يسندون التحريف إلى أحد الشيخين الجليلين البخاري ومسلم، أو غيرهما من علماء الإسلام الأكابر مثل ابن حجر العسقلاني، وابن كثير، والطبري .. من أجل ذر الرماد في العيون، وتبرئة التنويريين من تهمة التحريف وإلصاقها بهؤلاء العلماء الأكابر !

ومن يتتبع مقولات التنويريين ومواقفهم وتصريحاتهم يدرك بكل جلاء ووضوح أن الهدف الأول والأخير لهذه المؤامرة الكبرى التي يسمونها "التنوير" هو الطعن بالقرآن الكريم ونزع القداسة عنه، ونكتفي هنا بنقل كلام واحد من أدعياء التنوير في مقابلة له دعا فيها بكل صفاقة وحماقة لنزع القداسة عن القرآن الكريم، فقال حرفياً : "ما لم نبدأ بمراجعة القرآن الكريم الذي هو المصدر الأول، والنص الأهم في الاسلام لا يمكن لنا أن نمضي بأية مراجعة للتشوهات العقيمة والعميقة في الوعي العربي والاسلامي، ولا يمكن أن نقيم دولاً متحضرة ولا مجتمعات متحضرة، ولا يمكن أن نقوم بأي عملية إصلاحية .. لأن كل محاولات الإصلاح اصطدمت بهذا الحجر الصلب [ يعني القرآن الكريم] وأنا أعتبر أن المحاولات الشجاعة التي يقوم بها بعض الباحثين المصريين من أمثال إسلام البحيري والمستشار أحمد عبده ماهر ... وغيرهم كل هذه المحاولات لن تستطيع تحقيق شيء مما نصبو إليه، لأن هؤلاء التنويريين يكتفون بانتقاد كتب السنة، ويستمرون بتقديس القرآن بحجة تقوية دعوتهم للتنوير" وهذا الدعي التنويري لا يكتفي بهذه الضلالات، بل يعتب على التنويريين بأنهم يقدمون في معظم أحاديثهم اعترافاً مجانياً بقداسة القرآن !

وهكذا يرى هذا الباطني الحاقد أن التنوير ينبغي أن يتوجه إلى نقد القرآن ونزع القداسة عنه، لا إلى كتب التراث ولا كتب السنة، فذلك هو الهدف الذي يجب أن يعمل له التنويريون إذا كانوا فعلاً يريدون عصر تنوير جديد (؟!)

وهي نفس الفرية التي يروج لها أدعياء التنوير على اختلاف مشاربهم، ومنهم الشاعر السوري الباطني الحاقد "أدونيس" الذي رصدنا له مقابلات عديدة  طرح فيها رؤيته للتنوير، وقد لخصها بالدعوة إلى  "نقض الأسس المعرفية التي قامت عليها الرؤية النبوية" !

·       وهل الرؤية النبوية إلا  قرآن ؟!

وهكذا نرى أن هذا الحاقد يلتقي مع غيره من أدعياء التنوير باستهداف القرآن الكريم .. وبهذا تتكشف أبعاد المؤامرة الكبرى التي تتستر بشعار التنوير، وهي مؤامرة استعمارية قديمة معروفة تعود بدايتها إلى وليام جلادستون رئيس وزراء بريطانيا (1809 – 1898) الذي قال : "ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين؛ فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق" !

ويكفي أن نعلم أن هذا الحاقد الاستعماري كان رمزاً بارزاً في الكنيسة الإنكليزية، وقد ألف العديد من الكتب في اللاهوت المسيحي، مما يكشف البعد الديني في مؤامرة التنوير، وصدق الله عز وجل إذ يقول تعالى : "وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ " سورة البقرة 120 .

وبالرغم من هذا التحذير الإلهي المزلزل لا نجد من التنويريين أي اهتمام، بل على العكس نراهم يسارعون وراء أعداء الدين للدخول في الجحر الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم : "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه"  رواه الشيخان، من حديث أبي سعيد الخدري رضى الله عنه .

وسوم: العدد 832