لم أترك شعيرة الحج عاما منذ بلغت
لم أترك شعيرة الحج عاما منذ بلغت حتى صرت كهلا في الخمسين من عمري، ثم ضاقت بعد سعة، وتركتها مرغما قبل ثلاث سنوات!
كان الحج صديقا لي، تعلّقت به روحي فضلا من الله ورحمة، فقد أكرمنا الله بجوار البيتين المحرّمين ثلث قرن، فكانا أنيسنا في هجرتنا عوّضنا الله فيهما خيرا بفراق الشام وأهلها، (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة)، فكان الحرمان الشريفان أنيسين لنا فوق ما يأنس بهما كل مسلم، فهما سلواننا كلما أمضّنا مرير الغربة، ولا نكاد نترك الحرم يوما، وإذا ذهبنا أقمنا طويلا بضع ساعات.. فيذهب جفاف قلوبنا، ووحشة نفوسنا، ويرقا دمع أشواقنا بجوار الحبيب ﷺ وجوار الكعبة الشريفة..
وكانت حدائق أرواحنا، وبهجة ناظرينا، وجلاء همومنا في سهرات اجتماعية نقضيها في المشاعر حتى في غير وقتها! فإذا أتى موسم الحج انتقلنا بأقدامنا لقرب المسافة من مشعر لمشعر، وللمشاعر مشاعر! يعرفها الحاج الحاسر، والمعتمر والزائر، وزرت من بعدهما معالم سياحية في كثير من المدن، فلا والله ما سياحة كسياحة الحج على كل مشقته العذبة!
شيء واحد في الحجج الكثيرة التي حججتها لم أجرّبه إلا بعد أن شقّ عليّ الحج!
كنت لا أستوعب معنى: (من استطاع إليه سبيلا)!
كان الحجّ بين يديّ.. وكان بين إحرامي به وتحلّلي بضع ساعات! وكان الأمر يسيرا لدرجة أنني حججت ثلاث مرات مشيا على الأقدام، منهنّ المرة الأولى التي حججتها مع عروسي أول زواجنا، برغبة وحماس من كلينا!
اليوم شقّ الأمر وصولا وكلفة وجهدا.. اليوم أدركت معنى الاستطاعة.. اليوم بدأت أفقه فتاوى عدم تكرار الحج! وأن التصدّق بهذا المال لكفالة يتيم أو سعاية في شأن أرملة محتاجة، ورعاية مسنّ، وتزويج الأيامى، وتأهيل الناس بمشاريع إنتاجية تكفيهم عن تكفف الناس عولا لضعفائهم، ومحو الأمية، وإدخال السرور على من أرهقهم البلاء، ونشر العلم النافع، وسائر أعمال البر والعمل الصالح، أحقّ بمال المسلمين من بذل أموالهم في تكرار شعيرة، قد خفف الله عنهم، فلم يفرضها في العمر سوى مرة، ولم يحجها الحبيب ﷺ بعد بعثته سوى مرة!
ويبقى الحنين متمردا على العقل، وهل يلام من عرف مكة في محفلها القدسي، كيف لا يملك هواه وهو ينجذب إلى قطب الكون وقبلته في خير أيام الدهر؟!
يا راحلين إلى منىً بقيادي
هيجتموُ يوم الرحيل فؤادي
يا رب أنت وصلتهم ومنعتني..
فبحبها يا ربّ حُلّ قيادي
وسوم: العدد 837