قدوة القيادة في الإسلام 10
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة العاشرة : المفاوضات مع الأعداء 1
د. فوّاز القاسم / سوريا
يعتبر الحوار مع الآخرين ، هو أسلوب الداعية الأول للوصول إلى الإقناع . فهو أسلوب الرسل جميعاً ، وورثتهم من العلماء العاملين، والدعاة الراشدين . وحيثما أتيحت فرصته في أداء دوره الدعوي والإقناعي ، فعلى الداعية المسلم أن يدفع الحجة بالحجة ، والبينة بالبينة . وليكن له من رسوخ عقيدته ، واعتزازه بفكره ودينه ، وثقته بربه ومبادئه ، ما يغريه باقتحام لجج التفاوض والحوار مهما كان خصمه قوياً .
وهناك الكثير من النصوص القرآنية التي تأمر الدعاة باستنفاذ وسائل الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، قبل الانتقال إلى أساليب العنف والقوة ، حيثما كان ذلك ممكناً .
ولقد كانت سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، خير دليل على هذا المنهج المحكم .
فلقد بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يجادل قومه في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاماً .
وكانت له عدة جولات تفاوضية مع خصومه . منها المباشرة ، وغير المباشرة . ومنها الفردية ، والجماعية ..
ولقد كان هذا النبي الكريم صلى الله عليه ، يفاوض عن جماعة موحدة متماسكة ، فقاد عملية الحوار والتفاوض بمنتهى الحكمة والبراعة والتفوق ، رغم فشل نتائجها النهائية .!
واستخدم المفاوضات منبراً عالياً للدعوة إلى دينه .
ولم يتنازل في كل الجولات عن ذرة واحدة من مبادئه .
ولم يخرج بالرغم من كل الاستفزازات ، قيد شعرة عن خطته ومساره .! فلما استنفد كل فرص التبليغ والمجادلة والمحاججة بالتي هي أحسن . واضطره أعداؤه – بعد أن طردوه من وطنه ، وتآمروا على قتله ، وشردوا أصحابه ، وفتنوهم بكل أشكال الفتن المادية والمعنوية – إلى المواجهة ، عندها كان لابد من اللجوء إلى القوة
( فالحديد بالحديد يفلح) ، و ( إن لصاحب الحق مقالاً ) .!
(( ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل )) الشورى (41).
عندها نزل عليه قول الله تعالى :
(( أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظلموا ، وإن الله على نصرهم لقدير ، الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق ، إلا أن يقولوا ربنا الله ، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ، لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ، ولينصرنَّ اللهُ من ينصرُه ، إنَّ الله لقويٌ عزيز )) . الحج (39)
ولقد كانت المفاوضات التي حدثت بين النبي صلى الله عليه وسلم ، وبين المشركين ، في مرحلة الاستضعاف المكية ، واحدة من أهم ملامح هذه المرحلة. ويجدر بالدعاة أن يقفوا ملياً عندها ، ويدرسوا فقهها ، ويستخرجوا دروسها وعبرها ، لتكون لهم معالم شاخصة في طريق دعوتهم الطويل ..
وأود قبل أن أدخل في التفاصيل أن أذكّر بحقيقة هامة ، وهي أن المشركين كانوا دوماً هم الذين يطلبون هذه المفاوضات ، سواء بشكل مباشر معه شخصياً ، أو بشكل غير مباشر ، عن طريق عمه أبي طالب ، وسواء بشكل فردي ، أو جماعي ..
وتسهيلاً للبحث فإنني أود تقسيمه إلى قسمين ، حسب السياق التاريخي الذي حدثت فيه المفاوضات وهي :
المفاوضات غير المباشرة : والتي حدثت في ثلاث جولات .
والمفاوضات المباشرة : والتي حدثت في جولتين : فردية وجماعيّة .
أولاً : المفاوضات غير المباشرة :
وهي التي حدثت بين المشركين وبين الرسول صلى الله عليه وسلم ، عن طريق عمه أبي طالب ، أي بشكل غير مباشر .
ولقد بدأ هذا النوع من المفاوضات بشكل مبكر ، بُعيد انتشار الإسلام في مكة ، وكان على ثلاثة جولات :
الجولة الأولى :
قال ابن اسحق : فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام ، وصدع به كما أمره الله ، لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها . فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه ، وأجمعوا خلافه وعداوته ، إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام ، وهم قليل مستخفون . وحدب أبو طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنعه وقام دونه ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على أمر الله ، مظهراً له ، لا يرده عنه شيء .
فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يعتبهم من شئ أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم ، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب ، عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب، وأبو البختري بن هشام ، والأسود بن المطلب ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وغيرهم ..
فقالوا : يا أبا طالب ، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفّه أحلامنا ، وضلّل آباءنا . فإما أن تكفه عنا ، وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فانك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكَه .!
فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً ، وردهم رداً جميلاً ، فانصرفوا عنه .
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على ما هو عليه ، يظهر دين الله ، ويدعوا إليه ، ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا ، وأكثرت قريش من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها فتذامروا فيه ، وحض بعضهم بعضاً عليه.
الجولة الثانية :
ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى ، فقالوا له : يا أبا طالب ، إن لك سناً وشرفاً ومنـزلة فينا ، وإنا قد استنهيناك عن ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا ، حتى تكفه عنا ، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ، ثم انصرفوا عنه .
فعظُم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ، ولا خذلانه .
فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال له : يا بن أخي ، إن قومك قد جاؤوني ، فقالوا لي كذا وكذا ، للذي قالوا له .
فأبق عليَّ ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق . قال : فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بدا لعمه فيه بداء ، أنه خاذله أو مسلمه ، فقال في إصرار الدعاة وأصحاب المبادئ : (( يا عم والله لو وضعوا الشمسَ في يميني والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك دونه ، ما تركته .! )).
قال : ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى ، ثم قام .!!
فلما أدبر ناداه أبو طالب فقال : أقبل يا بن أخي .
قال : فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال : اذهب فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبد..
هشام ص1( 266) .
الجولة الثالثة :
ثم إن قريشاً حين عرفوا أن أبا طالب ، قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة ، فقالوا له : يا أبا طالب ، هذا عمارة بن الوليد ، أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره ، واتخذه ولداً فهو لك ، وأسلم إلينا ابن أخيك ، هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك ، وفرَّق جماعة قومك ، وسفّه أحلامهم ، فنقتله ، فإنما هو رجل برجل .!
فقال : والله لبئس ما تسومونني .! أتعطوني ابنكم أغذوه لكم ، وأعطيكم ابني تقتلونه .!؟ هذا والله ما لا يكون أبداً …
قال : فقال المطعم بن عدي : والله يا أبا طالب ، لقد أنصفك قومك ، وجهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً..
فقال له أبو طالب : والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ، ومظاهرة القوم عليَّ ، فاصنع ما بدا لك .. فحقب الأمر ، وتنابذ القوم، وبادى بعضهم بعضاً … هشام1 (267)
الدروس والعبر
بعد أن استعرضنا السياق التاريخي للمفاوضات غير المباشرة ، أود أن أقف على أهم الدروس المستنبطة منها :
* إيجابية الدعاة :
إن الجاهلية لا تعبأ أبــداً ، ولا تعير انتباهاً ، للمسلمين القابعين في زوايا التكيات والمساجد ، حتى لـو صاموا الدهر ، وصلوا آلاف الركعات ، وتلوا آلاف الأوراد ، ما داموا لا يتعرضون للحياة ومسارها وقوانينها . ولا يعنيهم من يكون الحاكم في البلاد ، ومن يكون المحكوم . أو من يكون الظالم ومن يكون المظلوم .!
بل إن الجاهليات المعاصرة ، انتبهت إلى ضرورة تشجيع مثل هذا (الإسلام) ، وتكثير عدد هؤلاء (المسلمين ) .!
ولذلك أرجو الانتباه جيداً إلى هذا النص الذي ورد في سياق الجولة الأولى من المفاوضات غير المباشرة :
(لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها ، فلما فعل ذلك أعظموه ، وناكروه ، وأجمعوا خلافه وعداوته ) .
إذاً .. إن التي أغاظت الجاهلية .. هي دعوةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قومَه إلى الإسلام ، وإلى توحيد الله ، وإفراده بالعبادة ، ونبذ الأصنام . أي الدعوة إلى ( لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ).
لأنهم كانوا يعرفون ماذا تعني هذه الدعوة ، من خلال معرفتهم الجيدة لمدلول لغتهم العربية .! إنها تعني أول ما تعني : نزع السلطان الذي يمارسه الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام ورده إلى الله .
السلطان على الضمائر ، والسلطان على الشعائر ، والسلطان على واقع الحياة ، والسلطان في المال ، والسلطان في القضاء ، والسلطان في كل مداخل الحياة ومخارجها …
وفهم العرب لهذه الدعوة ، هو الذي أخافهم منها ، وجعلهم يقفون ضدها ، ويعلنون الحرب عليها …
وهذا المعنى هو عين الذي جاء في رد وفد آل شيبان على الرسول صلى الله عليه وسلم ، يوم عرض عليهم أمر هذه الدعوة ، وطلب منهم الحماية والنصرة لتبليغها ، فاعتذروا عنه بأدب وقالوا :
(إن هذا الأمر مما يكرهه الملوك) .!
* التوقيت والدوافع :
لقد جاءت المفاوضات في مرحلة متقدمة من عمر الدعوة نسبياً ، فلقد كانت بداية الجولة الأولى بُعيد الجهر بالدعوة ، أي بعد السنة الثالثة من البعثة الشريفة .. وهي مرحلة كان الإسلام قد فشا فيها في مكة ، ودخل فيه الناس أرسالاً من الرجال والنساء .
مما حدا بالمشركين أن يبادروا لقطع الطريق على نجاحات الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوية ، ويوقفوا المد الإسلامي المتنامي ، الذي يمكن أن يهددهم وينافس سلطتهم ومراكزهم الدينية ، باعتبارهم حماة الحرم في مكة ، وجيران الله فيها ..
بينما لم يكن أحد ليعبأ بهم أو يفاوضهم على شيء وهم في المرحلة السرية ، ويعيشون بعيداً عن الأحداث والأضواء …
* أطراف التفاوض:
أولاً :الجانب المشرك :
كان الطرف الأول في المفاوضات يمثل زعامة الشرك في مكة ، وكان هو المبادر إلى طلب المفاوضات كردة فعل على نجاحات الدعوة في مكة ، وتنامي المد الإسلامي فيها ، وكانت ورقته التفاوضيّة كطرف أقوى في المفاوضات تحتوي على النقاط التالية :
1-الاتهام : لقد وجهت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الجولة التهم التالية : سب الآلهة ، وعيب الدين ، وتسفيه الأحلام ، وتضليل الآباء .. ووجهت إلى أبي طالب ضمناً ، تهمة الممالأة والرضى بما يصنع .
2-المطالب : وطلبوا من أبي طالب ، إما أن يكفه عنهم ، أو أن يخلي بينهم وبينه ، فيقتلوه .!
3-الترغيب والترهيب : وكعادة الجاهلية في كل زمان ومكان ، فقد لجأ المشركون إلى الترغيب تارة ، فعرضوا على أبي طالب أن يعطوه أنهد فتيانهم فيتخذه ولداً ، ويعطيهم محمداً فيقتلوه .. ولما رفض أبو طالب هذا العرض السخيف ، لجؤوا إلى التخويف والتهديد : (أو ننازله وإياك في ذلك ، حتى يهلك أحد الفريقين).
ثانياً : ممثل النبي صلى الله عليه وسلم (أبو طالب) :
أما رد أبي طالب ، فقد اتسم بالحكمة والرفق واللين في البداية ، ثم ضعف وخضع للتهديد والوعيد ، ثم ما لبث ، عندما رأى ثبات النبي صلى الله عليه وسلم على مبادئه ، أن صعّد نبرة التحدي ، وارتفع الى مستوى الحدث ، وأصر على حماية النبي صلى الله عليه وسلم، كائنة ما تكون النتائج ، فقال لابن أخيه : اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً.
وخاطب المشركين فقال : اذهبوا فاصنعوا ما بدا لكم .
هشام1 (266)
*اما موقف النبي صلى الله عليه وسلم فقد جمع بين أمرين :
1- الثبات على المبادئ : إذ لا مداهنة ، ولا مواربة ، ولا أنصاف حلول ، عندما تتعلق القضية بالعقيدة والمبدأ .
(( يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ، ما تركته)). هشام1 (266)
2- مرونة الاسلوب ، وبراعة الأداء : ولقد تمثلت براعة النبي صلى الله عليه وسلم في الإثارة العاطفية التي مارسها مع عمه أبي طالب ، وذلك عندما انصرف من عنده مكسور الخاطر ، وقد استعبر وبكى ، فنـزلت دمعاتُه على ضمير أبي طالب كالصواعق .!
إذ ليس من السهل على رجل كأبي طالب ، أن يرى الحبيب المدلل يبكي ، ولسان حاله يريد أن يقول : لو كان أبي عبد الله ، أو جدي عبد المطلب ، حيّـين ، لما تجرأت قريش عليَّ مثل هذا التجرؤ .. ولذلك فان أبا طالب لم يتمالك نفسه أن نادى محمداً حال منصرفه من عنده ، وهو يقول : أقبل يا بن أخي ..فلما أقبل عليه قال له :
اذهب فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً ..!
* موقف المشركين بعد فشل المفاوضات غير المباشرة :
بعد أن فشلت المفاوضات غير المباشرة بجولاتها الثلاث ، استقرت خطة قريش تجاه النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه على المعطيات التالية :
التصعيد العسكري :
فقد شنت على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم ، حملة مكثفة من الاعتقالات العشوائية ، ومارست ضدهم كل ألوان القهر والإيذاء والتعذيب ..
قال ابن اسحق : ثم إن قريشاً تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه ، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ، ويفتنونهم عن دينهم . هشام1 (269 ).
التصعيد الإعلامي :
كمـا شنت أجهزة الإعلام المكية ، حملة ظالمـة ضد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
قال ابن اسحق : ثم إن قريشاً اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن أسلم منهم معه ، فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم سفهاءَهم ، فكذبوه ، وآذوه ، ورموه بالشعر ، والسحر، والكهانة ، والجنون
وقال ابن هشام : حدثني بعض أهل العلم : ان أشد ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش ، أنه خرج يوماً فلم يلقه أحد من الناس إلا كذبه وآذاه ، لا حرٌّ ولا عبد . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله فتدثر من شدة ما أصابه فأنزل الله تعالى عليه :
(( يا أيهـا المدثـر ، قـم فأنـذر)) . . هشام1 (289)
3- التفكير باغتيال النبي صلى الله عليه وسلم :
وكعادة الطغاة دوماً ، فهم عندما يفشلون في ميادين الفكر والمحاججة، ويعجزون عن ثني أصحاب المبادئ عن مبادئهم ، يلجؤون دوماً إلى الأساليب الخسيسة ، كالبطش والقتل والاغتيال .!!
*مارسوه مع إبراهيم عليه السلام ..
(( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرِّقوه ، فأنجاه الله من النار ، إنَّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون)) . العنكبوت( 24 ) .
*ومارسوه مع موسى عليه السلام وأصحابه .
(( قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم ، إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون ، لأقطعنَّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ، ثم لأصلّبنّكم أجمعين )) .الأعراف (124 ) .
* وهاهم الآن يمارسونه مجدداً مع محمد صلى الله عليه وسلم :
قال ابن اسحق : يروي محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في الحجر : فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، وأحاطوا به ، يقولون : أنت الذي تقول كذا وكذا ، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم .!؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم .
قال : فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه يريد خنقه.
قال : فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه ، وهـو يبكـي ويقـول : أتقتلـون رجلاً أن يقول ربي الله .!؟
قال ابن اسحق : وحدثني بعض آل أم كلثوم بنت أبي بكر،أنها قالت : رجع أبو بكر يومئذ بعد محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد صدعوا فرق رأسه (شقوا رأسه) ، مما جبذوه بلحيته ، وكان رجلاً كثير الشعر .
* موقف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين .
وأما موقف النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة فقد أتسم بالثوابت التالية :
1-الثبات على العقيدة ، والتمسك بالمبادئ ، ومواصلة الدعوة :
استمر الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين على عقيدتهم ، وتمسكوا أكثر بمبادئهم ، وواصلوا الدعوة إلى ربهم ، غير مكترثين بما يضعه المشركون في طريقهم من الصعوبات والعراقيل.
ولقد كان لثباتهم هذا ، أكبر الأثر في نيل إعجاب الكثيرين من أصحاب الشهامة والنخوة من العرب ، وما أكثرهم .!
مما دفع بالكثيرين منهم أن يدخلوا في هذا الدين أمثال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه . أو على الأقل تجنب معاداة المسلمين إن لم يتمكنوا من الدفاع عنهم …
2-الرد على التصعيد العسكري ، بالمزيد من الصبر وضبط النفس :
لقد وقفت كثيراً أمام عبارات محددة أتملاّها ، وأفكر في مغزاها في هذه المرحلة بالذات – مرحلة الاستضعاف – مثل عبارة :
_( ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى ، ثم قام ) .! وعبارة :( فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه ، وهو يبكي ) .!
ترى .. ماذا تعني أمثال هذه المواقف ، التي تعبر عنها هذه الكلمات، في مثل هذه المرحلة بالذات .!؟
إنها تعني الكثير ،ولكن أحداً من المسلمين مع الأسف، لم يفهمها .!
والذين فهموها لم يستفيدوا من مدلولها فيطبقوها .!
ولو طبقوها لجنَّبوا أمتهم وأوطانهم أكواماً من الدماء والأشلاء .!
إنه فقه المرحلة … والمرحلة مرحلة استضعاف ..
والمُستضعَفْ لا يردُّ على التصعيد بالتصعيد .
بل بالصبر ، والهدوء ، والحكمة ، والدمــــــــوع .!!
قد يقول قائل : إن هذا الطريق يطول .!
نقول : ولو امتد بنا ألف سنة .! كصبر سيدنا نوح عليه السلام..!
وقد يقول آخر : هذا انهزام واستسلام .!
نقول : أعيدوا إذاً قراءة التاريخ والسيرة …!
3-الرد على التصعيد الإعلامي بإعلام مثله :
نشط الإعلام الإسلامي في هذه الفترة نشاطاً يوازي التصعيد الإعلامي المعادي ويرد عليه ..
ولقد كان وزراء الإعلام في تلك الحقبة من الزمن هم الشعراء .. ولقد كان مدير وكالة الأنباء المحمدية – بالرغم من أنه مشرك ، إلا أنه كان مخلصاً- هو أبو طالب .. وكانت لقصائده أعظم الأثر في محاججة الأعداء ، وتحديهم ، ورفع معنويات الأصدقاء ، وتثبيت مواقفهم .
ففي تحديه للأعداء بعد فشل جولة المفاوضات غير المباشرة .
قال ابن هشام : فقال أبو طالب عند ذلك ، يعرض بالمطعم بن عدي، ويعم من خذله من بني عبد مناف ، ومن عاداه من قبائل قريش :
ألا قل لعمروٍ والوليد ومطعـمٍ ألا ليتَ حظي من حياطتكم بِكْرُ
من الخُور حَبْحابٌ كثيرٌ رُغاؤُهُ يرشُّ على الساقين من بوله قَطْر
وقال :
أرى أخوينـا مـن أبينـا وأُمنا إذا سُئلا قالا إلى غيرنا الأمر
أخصُّ خصوصاً عبد شمس ونوفلا هما نبذانا مثل ما يُنبذ الجمـرُ
إلى أن يقول :
فـوالله لا تنفـكُّ منـا عـداوةٌ ولا منهمُ ما كان من نسلنا شَفْرُ
هشام1 ( 268 )
وفي مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتشجيع قومه على مناصرته يقول :
إذا اجتمعت يوماً قريشٌ لمفخرٍ فعبدُ منافٍ سـرُّها وصميمُها
وإن حصلت أشرافُ عبدِ منافِها ففـي هاشـمٍ أشرافُها وقديمُها
وإن فخرت يوماً فـان محمداً هو المصطفى من سرها وكريمُها
تداعـت قريشٌ غثـُّها وسمينُها علينا فلم تظفر وطاشت حلومُها
وهكذا كان الإعلام الصديق يصعد نبرته مع اشتداد المنازلة ، حتى فشا ذكر الإسلام في كل مكان ..
قال ابن اسحق : ( فانتشر ذكره في بلاد العرب جميعاً).
وعندما بلغت المنازلة أوجها ، أنشد أبو طالب قصيدته اللامية الشهيرة، التي كانت تستحق أن تعلق في جدار الكعبة والتي قال فيها:
ولما رأيتُ القـومَ لا ودَّ فيهـمُ وقد قطعوا كل العرى والوسائلِ
وقد صارحونا بالعداوة والأذى وقـد طاوعوا أمر العدوِّ المزايلِ
وقد حالفوا قوماً علينا أظنـةًّ يعضُّون غيظـاً خلفنا بالأنامل
صبرتُ لهم نفسي بسمراءَ سمحةٍ وأبيضَ عضبٍ من تراث المقاولِ
إلى أن يقول مخاطباً المتربصين برسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين :
كذبتم وبيتِ الله نُبزى محمداً ولما نُطاعنْ دونه ونناضـلِ
ونسلمه حتى نُصرَّع حولَـه ونذهلَ عن أبنائنا والحلائلِ
نُبزى محمداً = أي نُغلب عليه .
ويقول في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجهه ثمِالِ اليتامى عصمةٍ للأرامل
يلوذُ به الهُلافُ من آلِ هاشمٍ فهم عنده في رحمة وفواضلِ
ثمال اليتامى= كافل الأيتام والأرامل .
ولقد كان من أعظم ثمار هذه الحملة الإعلامية ، وصول خبر المسلمين إلى يثرب ..
قال ابن هشام : فلما انتشر أمـر رسول الله صلى الله عليه وسلم في العـرب، وبلغ البلدان ، ذُكر بالمدينة ، ولم يكن حـي من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر ، وقبل أن يُذكر، مـن هذا الحيّ من الأوس والخزرج . هشام1 (282) .
ثم ما لبثت الجزيرة العربية كلها ، أن رددت رجع صدى شعر أبي طالب ، فانبرى الشعراء العرب ، أهل الحمية والغيرة والمفاخر ، يرفعون عقائرهم ، مطالبين بإنصاف الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش .
من هؤلاء الشعراء ، أبو قيس بن الأسلت ، الذي كان محباً لقريش ، وكان لهم صهراً ، فقد أنشد من غرر الشعر العربي ، يعظّم فيه حرمة البيت ، وينهى قريشاً عن الحرب ، ويأمرهم بالكفِّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويذكرهم بلاء الله عندهم ، وإكرامه لهم :
أُعيذكمُ بالله من شرِّ صنعكمْ وشـرِّ تباغيكمْ ودسِّ العقاربِ
متى تبعثوها تبعثوهـا ذميمةً هي الغولُ للأقصين او للأقارب
أقيموا لنا ديناً حنيفاً فأنتمُ لنا غايةٌ قد يُهتدى بالذوائب
الذوائب = الأعالي .
ومنهم حكيم بن أمية ، الذي أسلم وبدأ يذبُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويورِّع قومه عما أجمعوا عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان فيهم شريفا مطاعاً .
وفي هذه الأثناء ، وبينما كان تصعيد الجاهلية ضد المسلمين على أشده ، وبينما كانت الحرب الإعلامية مستعرة ، أسلم الحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، ثم أسلم بعده بثلاثة أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كان ذلك في أواخر السنة السادسة للبعثة الشريفة ، وكان لإسلامهما قصتين متشابهتين ، ففي كلتيهما كان الظلم المفرط من قبل المشركين، والصبر والثبات من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، هي الأسباب الحقيقية لإسلامهما..
وذلك لان النخوة العربية ، في مثل بيئة قريش ، كان من عادتها أن تثور للمظلوم ، الذي يحتمل الأذى ، ولا يتراجع .
وبخاصّة إذا كان هذا الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم .
ولقد وقعت ظواهر كثيرة مشابهة كما ذكرنا في صفحات سابقة . فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر يهاجر – وهو رجل كريم – وصفه هو بقوله : إنك لتزينُ العشيرَة ، وتعينُ على النوائب .
ورأى في ذلك عاراً على العرب ، فأعاده وعرض عليه جواره .
ولقد رأينا من قبل كيف قامت مجموعة من كبار المشركين في مكة بخرق الحصار الاقتصادي الجائر، ونقض صحيفة العار التي كتبها المشركون ، فحكمت بالسجن والجوع حد الموت ، على كل من انتمى إلى الإسلام …
وبإسلام هذين العملاقين ، فقد دخلت الدعوة الإسلامية مرحلة جديدة ،
هي المرحلة الجهرية الكبرى …
حيث امتنع المسلمون بهذين العملاقين حتى عازُّوا قريشاً ..
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : (ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة ، حتى أسلم عمر بن الخطاب ، فلما أسلم ، قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة ، وصلينا معه ) .
وقال أيضاً : ( إن إسلام عمر كان فتحاً ، وإن هجرته كانت نصراً ، وإن إمارته كانت رحمة ، ولقد كنَّا ما نصلي عند الكعبة ، حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة ، وصلينا معه). هشام1 (342 )
ولما رأت قريش عزة الإسلام النسبية ، ومنعة المسلمين ، وأنهم يزدادون باستمرار ، جُنَّ جنونها ، وطار صوابها ، ووضعت خطتها للدخول في جولة جديدة من المفاوضات ، لكنها أكثر جدية في هذه المرة ، ومع الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة ..
وبدأت المفاوضات المباشرة .. وهي تقسم الى قسمين :
المفاوضات المباشرة الفردية والمفاوضات المباشرة الجماعية .