نصف عالم أضر على الناس من جاهل!!!
لأنه ببساطة يعطي "نصف الحقيقة" فيغري الناس بها فيضل ويضل، أما الجاهل فليس عنده شيء، فلا يغري الناس وأمره معروف
ولا أقصد ها هنا علماء الشريعة فحسب، بل علماء أي تخصص كان، طبيعيا أو انسانيا أو اجتماعيا.
حين لا يستكمل القانوني تعليمه وأدواته، فان الناتج عند ذاك قاض يحكم بالظلم والظاهر من الأحكام.
وحين لا يستكمل الطبيب تعليمه ومهاراته، فإنه سيعطي ولا بد تشخيصا وعلاجا قد يفضي بالمريض إلى الشلل أو الموت.
وحين لا يستكمل الإداري علمه وخبرته، فإنه لا يعرف من الإدارة الا القواعد الجامدة والتسلط وإصدار الأوامر.
ومثل ذلك السياسي الذي يعرف من السياسة مظاهرها وضجيجها، دون امتلاك رؤية كلية وأدوات علمية منهجية للحكم على الأمور.
ومثله أيضا العالم الشرعي الذي يحفظ أو يعرف النصوص والأحكام دون إدراك لمقاصدها ودون معرفة بالواقع والتنزيل.
إن نصف العالم يعمد لاكمال نصفه المفقود بالتشغيب والنقد لغيره لا بالتحصيل والدرس وتطوير نفسه.
ويعمد إلى رؤية ظواهر الامور دون جوهرها لأن الجوهر يحتاج معرفته إلى أدوات لا يملكها.
ويعمد إلى إعطاء نصف الحقيقة فيضخمها ويزينتها، لأنه لا يعرف نصفها الثاني، فيقود الناس إلى فكر وسلوك مشوهين، فيتورط ويورط.
إن نصف العالم يساهم في صياغته:
أولا: المناهج الناقصة أو القديمة أو المؤدلجة.
ثانيا: الظهور الإعلامي المبكر وحب الجاه والتصدر الذي يغريه بالتعجل قبل استكمال أدواته وشخصيته العلمية.
ثالثا: الشهادة التي تعطي شكل العلم لا مضمونه في الكثير من الجامعات، وتنتج عنده احساسا موهوما بالمعرفة الكاملة.
رابعا: الكسل والركون للألقاب بدل مواصلة التحصيل والتعليم المستمر.
خامسا: الجماهير التي قد تنبهر ببلاغته دون إدراك وقياس لمدى مصداقية ما يقول.
وأشد ما يكون نصف العالم مضرا في ثلاثة مجالات:
الأول: العلوم الدينية، لأن نصف الفهم فيها يورث إما الغلو أو التسيب، ويضيع على الناس دينهم وآخرتهم.
الثاني: السياسة، لأنها متعلقة بمصائر الناس، وتصورات وقرارات الشأن العام التي يعم نفعها وضررها فيضيع عليهم دنياهم.
ثالثا: الطب لأن به صحة أبدانهم فيفوت عليهم صحة أجسادهم.
وها هنا مسألة، وهي ما معيار وضابط الاعتداد بعلم هذا أو ذاك من العلماء؟ ومن يحدد ذلك؟
فأما ضابط الاعتداد بالعلم، فإن المقصود ليس طلب الكمال فيه، وعدم الخطأ فكمال العلم لله وحده، بل امتلاك الأصول والقواعد والمفردات والأدوات والملكات والمهارات والمنهجيات الخاصة بهذا العلم أو ذاك، بحيث يعذر فيها عند وقوع الخطأ منه.
وأما من يحدد ذلك، فهو شهادة المتخصصين المشهود لهم بالعلم والبروز في كل علم وتخصص، وليس الأمر مباحا وموكولا لكل أحد.
وأخيرا: فإن قوله ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ أنتزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إذا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" قد لا يشمل علماء الشريعة فحسب، بل كل عالم في أي تخصص، ويشمل من يملك نصف العلم، كما يشمل من لا يملك العلم أصلا، فكلاهما جهل مضر.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعتنا بما علمتنا ...
وسوم: العدد 841