في ظلال الصبر ...
نحن نعلم : ( أن وعد الله حق ) 13/القصص ، ونحن نعلم علم اليقين أن الهلاك لن يفلت منه الظالمون ، فانظر ... ( كيف كان عاقبة الظالمين ) 40/القصص ، ولا ينكر أحد منا ماوقعت به الأمةُ وأبناؤُها اليوم من الأهوال والشدائد والمحن ، وهنا حقائق جاءت بها الأحاديث الصحيحة عن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ألا فَلْنَتَمَعَنْ :
أصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا . لايجد الصالحون مَن يعينهم وينصرهم على إعلاء كلمة الله . يبيع الناس دينهم بعَرَض من الدنيا قليل . فَسَقَ الفتيان ، وطغت النساء ، وأصبح حبُّ الدنيا وزخرفُها أحبَّ ماعلى الأرض إلى الناس . أجل ... هلكت الأمة ، وفيها الصالحون ، فقد كَثُرَ الخبث . (ولا حول ولا قوة إلا بالله ) ، ويقيننا بالله أنها : ( لن تهلك ... ) . نشاهد اليوم حصار الشام والعراق من قبل العجم المجوس ومن الصليبيين الصهاينة . نشاهد الأممَ الكافرةَ وقد تداعت على أمتنا من كل جانب ، بأسنا بيننا شديد ، فقد تفرقت الأمة ، لاتباع الأحزاب العلمانية للكفرة والملحدين من أهل الغرب الصليبي أو الشرق الملحد . المسلمون يعلمون كلَّ هذا ، ولكنهم لايرعوون ولا يذَّكرون ... الأمة اثَّاقلت إلى الأرض ، إلى الهوان والهوى والخنوع ، وتباطأت عن نصرة الإسلام ، الذي فيه عزُّها وكرامتُها وسيادتُها العالمية . مجالس أكثر الناس يملؤها اللهو والمكاء والتصدية ، وقد أصابهم العَمَهُ الذي كبَّلهم بحبال الحيرة والغباء . وهذا قليل من كثير دوَّنتْهُ السُّنَّةُ النبوية المطهرة المقدسة ، وحذَّرت من الوقوع فيه ، ومن ذا الذي ينكر هذا الواقع الأليم المفجع ؟!
الأعداء ــ على اختلاف راياتهم وتعدد مشاربهم وتَنَوُّع أطماعهم ــ يتربصون بأمتنا ، ويقعدون لها في كل مرصد ، وقد استطاعوا أن يضربوا ضربتهم التي تكاد أن تكون القاضية ، فنزلت الرزايا والمصائب والأهوال على الأمة كالمطر المدرار ، حتى بات الناس يتداولون أحاديث آخر الزمان ، وما ورد فيها من آثار عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي كثيرة ومنها : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ : ( أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ ) ؟ قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : ( فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا ، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلاَ يُقْبَلَ مِنْهَا ، وَتَسْتَأْذِنَ فَلاَ يُؤْذَنَ لَهَا ، يُقَالُ لَهَا : ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ ) 38/ يس ، رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما .
( يُقَالُ لَهَا : ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا ) ... والله إنها لجملةٌ تذوب لمعانيها القلوب . إنه إنذار جبَّار السماوات والأرض للخلق ، إنها بداية الأهوال والشدائد الأبدية التي تجعل الولدان شيبا !
فما على الناس ــ اليوم ــ إلا الصبر والالتجاء إلى الله ، لأنهم لن يجدوا غيره ظلا ولا ملجأ ، والإسلام علَّم أهلَه الصبر على المكاره ، وعلى معالجة الفتنة ، وبثَّ في أعماق قلوبهم اليقين بأن الفاسد لن يفلت من قبضة الجزاء والعقوبة ، فلا بد من التوبة لطلاب الفتح والفرج ، ولا بد من الالتجاء إلى الله جلَّ وعلا ، ولا بد من البراءة من كل مصطلحات الجاهلية التي يعيشها الناس ، إن الناس اليوم جعلوا بين خيريتهم ومكانتهم المرموقة المنشودة وبين هذا البهرج الباطل من الزيف برزخا مرعبا من الضلالات ومن الفساد ، ومن الشدائد العظام ، ولا مناص من العودة إلى الله ، أجل : العودة إلى الله ... وعند ذلك تلتجئ الأمة إلى بارئها بعد أن ارتدت ثوب الإسلام الطاهر ، ولسوف تجد بفضل الله الفرج والفتح والتأييد : ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ) 62/النمل . فالقرآن الكريم بين أيادي أبناء الأمة ، والسُّنَّة النبوية في متناول وعيهم ، وحبهم لنبيِّهم صلى الله عليه وسلم ، حيث الهدى والرحمة والسكينة : ( وَإِنَّهُ لَهُدَى و رحمةٌ للمؤمنين ) 77/النمل . إن من نتائج طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ... الفتح والتأييد ، وفي ذلك مخالفة لمكائد المفسدين الضَّالين ، إنه نداء الأنبياء في كل أمة ، وإنها سُنَّةُ الله في كل زمان ومكان :
( فَاتَّقُوااللَّهَ وَأَطِيعُونِ )... الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، والأخذ بما جاء في القرآن الكريم والسُّنَّة الشريفة .
) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ) ... فلا طاعة لمخلوق في معصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فالحذر ، الحذر من طاعة المفسدين ، تلك النخب البائسة الضَّالة المضلَّة التي تتوكأ على قوة الشيطان ، وعلى مزاميره وإعلامه المنبوذ .
) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ) 150/151/152سورة الشعراء . إن الإفساد مذهب إبليسي استخدمه إبليس فأخرج آدم عليه السلام من الجنة ، وليس لمفسد أن يكون مصلحا في مجتمع من المجتمعات الإنسانية ، فلا يغتر شبابنا وشاباتنا بدعوات الفجور والسفور والتحرر الأعمى باسم حضارة تهافتت على حطامها آمال الكثيرين من الخلق . وما جَلَبَ هذا الشقاءَ والخذلان على الأمة إلا هذا الفسادُ ... الفساد في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية ... أجل إلا هذا الفساد الذي أوهن الأمة ، وفرَّق جمعها ، وأضعف عزيمتها ، وهو السبب الرئيس فيما أصاب أبناءَها من تنكيل وتهجير وذبح وغرق وحرق ... ( والأمة اليوم أدرى بما حلَّ بها ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ) . والمفسدون خالفوا أمر الله عزَّ وجلَّ ، وشاقوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، بل إنه تعبير عن كفرهم بما أنزل ربُّهم : ( ولا تعثَوا في الأرضِ مفسدين ) 36/العنكبوت .
ولا خشية على الإسلام العظيم ، فرايتُه كانت ولم تزل وستبقى بمشيئة الله إلى يوم الوعد ... خفَّاقةً عاليةً رغم الأحقاد والمكائد والمؤامرات والمؤتمرات الإبليسية التي يتعهدها شياطين الإنس والجن على توالي العصور فالدوام الأبدي ليس إلا لشريعة الإسلام. ومهما تناءى أبناء الأمة عن هذه الشريعة فلابد لهم من عودة حميدة ــ إن شاء الله ــ لأن قلوبهم وإن رانت عليها قذاراتُ المفسدين ، فهي تحنُّ إلى موئل الخلود الأبدي في جنَّات النعيم ، والله عزَّ وجلَّ غفور رحيم ، وقد وعد الأمة بالعفو والشفاعة يوم القيامة لأهل الإنابة إليه ، والذين تواضعوا في حياتهم لربهم واتبعوا هداه وما كانوا من المفسدين : (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )83 / القصص . وكما أن الدوام والخلود لهذه الشريعة المحمدية ، فإن الثبات عليها ، والجهاد في سبيل إعلاء كلمتها هو من سجايا أبناء هذه الأمة ، فهاهم صابرون في الثغور وفي السجون ، وهاهم عاليةً جباهُهم رغم الحصار والدمار ، ورغم تكالب المجرمين وعتوهم واستلابهم لخيرات الأمة ، إنهم أهل الصبر ، الموعودون بالفرج والفتح ، الذين يعيشون لله ولدينه العظيم ، وهم أهل الغِلظة على الطغاة والظالمين ، أهل الميثاق الذي لم يُنقض على أيديهم أبدا . أولئك أهل الاستخلاف والتمكين ، يقول المولى تبارك وتعالى : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55/ النور ، وأولئك هم أهل الصبر على البلاء وعلى كل ما أصابهم في سبيل الله رب العالمين : ( والصَّابِرِبنَ على ما أصابَهُم ) 35/الحج . فالصَّابرون هم أحباب الله الذين لن يتخلَّى عن نصرتهم ، ولن يدعهم بلا تأييده : (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) 38 / الحج ، وأهل الصبر هم أهل البشريات يوم القيامة ، فلهم الزلفى ولهم المكانة ، ولهم الفوز يوم يخسر المفسدون والسفهاء المبطلون : (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ) 111 / النور .
تنتظر الأمة المخرج والخلاص ، وباب الخلاص بين أيدي أبنائها ، فهذا كتاب الله سبحانه ، وهذه سُنَّةُ رسولِه صلى الله عليه وسلم ، ففيهما الفرج الرحب ، وفيهما السكينة التي أنزلها الله على الصالحين ، وفيها الفتح والنصر على هؤلاء الأعداء ، الذين ليس لهم عهد ولاذمة ولا دين ، المسلمون اليوم بحاجة أن تلهج ألسنتُهم بذكر الله ، وتخضر أيامهم بالطاعات والسِّير الحميدة ، وتزهر مغانيهم بِجَنَى القيم الإسلامية الطيبة ، لقد كفى الأمة هذا البهرج الفارغ ، وهذا الزيفُ المقنَّع بالألوان الزاهية ، وهذا اللهو الذي يصفِّق له الشيطانُ صباح مساء ... الأمة بحاجة أن تسلم وجهها لله ، وأن يكون لجام الشرع على كل تصرفاتها ، لكيلا تتفلت وتتلاشى ، يريدها الله أن تكون قانتة منقادة إلى طاعته . وأن تعلم مناسكها ومناهجها لتخلص العبادة له وحده سبحانه وتعالى . لعل الله يزكيها من الأدناس التي حجبتها عن رؤية الحق المنزل من عند الله . ويُذهب الله أصوات شياطين الإنس والجن ، ومزامير أهل الأهواء والموبقات ، فالأمة بحاجة إلى القلوب السليمة والألسنة الطاهرة المهذبة ، والكلمة الطيبة المباركة بعيدةٌ عن العَمَهِ الذي يغشى قلوب الغافلين ، ونائيةٌ عن بيئة الشِّقوة التي يرتادها السفهاء من الناس ، فالكلمة من رضوان الله كالمشكاة التي تدرأ عن أهلها ظلمةَ الضلال ، أجل ... إنها السَّنا المبارك الذي يُحيي قوةَ الهمة ، ويشد أزر أهل العزيمة ، فيتلاشى في طريقهم الزيف والريب والعجز ،فالكلمة التي تخرج من القلب الطاهر لاتكون افتراء ولا زورا ، وإنما هي الجذوةُ التي أوقدتها آيات الكتاب المبين ، تأمَّل في معاني هذه الكلمات ومراميها : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ، والأخرى : ( لاحول ولا قوة إلا بالله ) ، والثالثة : ( لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا ) ، ( واصبر وما صبرك إلا بالله ) ... وغيرها في كتاب الله ، وفي سُنَّةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم كثير ... لقد أنزلها الله لتكونَ المتَّكأَ لأولي البصائر من المؤمنين إذا نزلت المصائب ، ودلهمت الرزايا ، فلا يؤفكون عنها لأنها السكينة التي تمنح أسباب الرضا بقضاء الله وقدره سبحانه وتعالى . فلا يضجر المؤمن من ثقل المصيبة ، ولا يسأم أبدا من ذكر الله ، فيمنح الله الطاقة له ، والقدرة على القيام بما يرضي الله ، إن اللفظ الظاهر يعبر عن مكنون السرائر ، فالكلمة بحد ذاتها ذات دلالة ، والكلمة الطيبة المسؤولة لاتوجد إلا عند الصادقين أولي الألباب ، وإلا كانت من فوضى التعابير التي تعج بالمفاسد والضلالات التي يتحمل تبعاتها أهلُهــا في الدنيا وفي الآخرة : ( مايلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) ، فالفوضى في القول تجر صاحبها إلى المحاسبة وإلى الجزاء ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة مِنْ رضوان الله لا يُلْقِي لها بالاً، يرفعه الله بها في الجنة, وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يُلْقِي لها بالاً، يهوي بها في جهنم ) . رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، ومالك في الموطأ ، والترمذي في سننه . وفي هذا تحذير لأهل مجالس الغيبة والنميمة ، وأهل الكلام الذي يجلب سخط الله عزَّ وجلَّ . والفرق بعيد بين المجالس التي تغشاها الرحمات ، وتكتنفها السكينة ، وتحفها ملائكة الرحمة ، وبين مجالس البطالين السفهاء ، يقول نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم : (ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل؛ إلا غشيتهم الرحمة, ونزلت عليهم السكينة, وحفتهم الملائكة, وذكرهم الله فيمن عنده )
لاشك أن كل مايصيب المسلم هو ابتلاء من الله ، والمسلم حريٌّ به أن يكون عالما وراضيا بقضاء الله وقدره ، وأهل البلاء في الدنيا هم أهل الكرامة الإلهية في الآخرة ، وليس في ذلك من ريب .
((( وبشِّر الصابرين )))
وما أجمله من عنوان ، يقول تعالى ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ البقرة: 155 – 157.
المبشر هو المولى تبارك وتعالى ، والبشارة هي الدرجات العاليات يوم القيامة ، والصبر عند أي مصيبة كبرت أم صغرت هو الملجأ الأمين للمسلم . وحسب المسلم قوله : (إنا لله وإنا إليه راجعون ) . ولقد ورد في تفسير الآيات : ( أن يعرف المصاب ويوقن بأن نفسه وأهله وماله وولده ملك لله تعالى حقيقة، وأن الله تعالى قد أعارها إياه وجعلها عنده، فإذا أخذها الله منه فإنه يكون قد استرد ما أعاره إياه، وأن تملك الإنسان لما أعير إنما كان لفترة يسيرة من الزمن ليستمتع بها. وإذا كان الإنسان قبل أن يولد عدما، وبعد أن يموت سيكون عدما، وإذا كان الله تعالى هو الذي أوجده من عدم، فكل ما يملكه ليس ملكه حقيقة وليس له فيه تأثير، وإنما ملك من أوجده من هذا العدم.( وللعبرة والعظة ذكر العلماء قصة ذي القرنين : ( أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض و مغاربها وبلغ أرض بابل مرض مرضا شديدا فلما شعر بدنو أجله كتب إلى أمه: يا أماه اصنعي طعاما واجمعي مَن قدرت عليه ، و لا يأكل طعامَكِ مَن أصيب بمصيبة ، واعلمي هل وجدت لشيء قرارا باقيا و خيالا دائما؟! إني قد علمت يقينا أن الذي أذهب إليه خير من مكاني ) . فلما وصل كتابه إلى أمه صنعت طعاما و جمعت الناس و قالت: لا يأكل هذا مَن أصيب بمصيبة . فلم يأكل أحد من هذا الطعام !!!
فأدركت ماذا كان يقصد ولدها، فقالت: من يبلغك عني أنك و عظتني فاتعظت وعزيتني فتعزيت فعليك السلام حيا وميتا.
أرأيتَ لم يأكل أحدٌ من الطعام لأن الجميع أُصيبوا بالبلاء في حياتهم . وقال المفسرون أيضا : ( و قد يتحقق للإنسان بكلمات الاسترجاع منزلة عالية و ثوابا جزيلا، فإن الله تعالى يقول لملائكته: (ماذا قال عبدي (أي عند المصيبة)؟ فيقولون: حمدك و استرجع فيقول الله تبارك وتعالى:ابنوا لعبدي بيتا في الجنة و سموه بيت الحمد ) . وقال الإمام أحمد في مسنده: عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ( ما من مسلم و لا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها و إن طال عهدها ــ قدم عهدها - فيحدث لذلك استرجاعا إلا جدد الله له عنه ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها.
((﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ﴾))
وبالتأكيد إنه عنوان جميل ... فإن عِظَم الجزاء والثواب مع عِظَم البلاء , ولو يعلم الإنسان ما له من ثواب وجزاء في حال صبره على البلاء : لم يجزع ، وما هو ذاك الجزاء ، وما تلك المثوبة التي تتضاءل أمامها كلُّ مصائب الدنيا ؟ والجواب عند رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فعن جابر رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ) رواه الترمذي .
أخي المسلم اقرأ الله قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فيما يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : (إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ) رواه الترمذي ، وأسأل الله سبحانه أن يكون والدك من أهل الرضا . وما أعظم وأجلَّ وأدقَّ قول الحبيب المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرويه أَبِو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) رواه الترمذي .
أخي المسلم هنا مكان اختبار الإيمان ، وابتلاء الرجال المؤمنين بالله ، نسأل الله أن يرفع درجات الشهداء في عليين ، وأن يسبغ على الجرحى والمرضى أثواب العافية ، وأن يملأ قلوب أهاليهم سكينة وصبرا ، وأن يفرِّج عن المسجونين الذين يعانون من وطأة التعذيب على أيدي الجلادين ، وأن يجعل الجميع من أهل الجائزة الكبرى يوم القيامة ... إنه قريب مجيب .
وسوم: العدد 844