علم السياسة بين التوقعات العلمية والنبوءات الدينية
إن أصل علم السياسة هو التوقع..
قرأت هذه الجملة العظيمة في كتاب نبيل خليفة، والجملة لم أكن منتبهاً لها وهي من البدهيات، وكم من البدهيات منسيات، والعبارة هي لعالم السياسة الألماني فريدريش رانزل صاحب كتاب "الجغرافيا السياسية". فالسياسي مدعو لقراءة الأحداث والوقائع الموضوعية بين يديه، لكنه مدعو أيضاً إلى تحليل هذه الأحداث لصياغة المستقبل. الجملة جاءت في كتابه "استهداف أهل السنّة: المخطط الاستراتيجي للغرب وإسرائيل وإيران للسيطرة على الشرق الأوسط". والمؤلف مسيحي لبناني حاصل على دكتوراة في الفكر السياسي من جامعة السوربون.
لا شك، هناك أسباب أخرى لمتابعة الناس الأخبار والتحليلات والتوقعات وهوامشها، مثل البرامج الكوميدية، لأن السياسة ميدان الملوك الأول، وهم الذين يصنعون التاريخ، وهي معاش الناس ومناط حياتهم. وكان النضر بن الحارث يدرك أهمية أخبار الملوك في بداية البعثة النبوية.
بالأمس شبّه رئيس برلمان مصر علي عبد العال رئيس مصر بهتلر، ومدح هتلر، وتوقّع بعض كبار الناشطين وزعماء حركات سياسية مصرية أيضاً أنه لن يطول به المقام على هذا الخطأ المزدوج الذي سيثير حفيظة أولياء السيسي. وهذا توقع ليس في محله، ولا يدركون أن الدكتاتورية كلها مغامرات ومفاجآت مثل أفلام الوسترن والمغامرات والتشويق. وخابت توقعات بإزاحة المفتي السوري من منصب المفتي الذي هدّد بعمليات إرهابية في أوروبا بعظمة لسانه، ولكنه لا يزال يرتع ويلعب ويضحك ضحكته الجنان، ويُحترم في أوروبا ويُستقبل في أوروبا وبرلماناتها بالأحضان، ولم تنجح محاولات الناشطين في تشريره في نظر أوروبا الرسمية، لأن أوروبا الرسمية تراقب وتنظر إلى العمل، فلسانه وإن كان ضدها فقلبه معها.
التوقعات السياسية هي تحليل المعطيات بالنظر إلى وقائع الأرض، والشعوذة والسحر هي تنبؤات بالنظر إلى نجوم السماء.
ومن التوقعات الشهيرة أن كثيرين أملوا أن يعزل حافظ الأسد عبد الله الأحمر بعد أسره وخطفه من قبل إسرائيل، لكنه استمر في عمله، فهؤلاء المحللون ينظرون بعيون الحكمة إلى الأمم التي تحترم نفسها ولسنا منها. ومن التوقعات التي خابت أن متنبئاً مثل المنجّم مايك فغالي، الذي يتنبأ بواسطة ذبذبات الصوت (كالحشرات) بالزلازل والخيرات والمصائب، توقع أن الدولار سينزل في سوريا إلى 300 ليرة، وأن الأسد سيرتفع كثيراً ويعلو نجمه، ولن نعرف الذبابات الصوتية التي قاس بها هذه المرة نبوءته.. وأن كثيرين توقعوا أن يتجنّب الأسد مصادرة أموال آل مخلوف استشهاداً بأمثال مثل: الكلب لا يعضُّ ذنبه. والأمثال هي تجارب بشرية ولها أمثال مضادة، وليست قوانين حتمية مثل قوانين التاريخ والفيزياء، وحتى لهذه القوانين شذوذ. الدكتاتورية لها قوانين معروفة، لكن مزاج الدكتاتور يصعب التكهن به.
مراكز أبحاث عملاقة مثل كارنيغي استبعدت أن تقوم ثورة في سوريا، حسب دراسات قام بها علماء وباحثون؛ لأنها مستقرة والشعب شبعان (ورئيسها عادل ومحبوب وزوجة الرئيس جميلة وقطة، وهي دولة مقاومة وممانعة)، لكنْ خابت توقعاتها.
فعل الأسد كل ما بوسعه ليحافظ على نفسه وكرسيه، فقتل الشعب وقتل الموالين وعمل على بيع وتأجير موانئ سورية ومطاراتها، وتنازل عن السيادة، ونُقل في طائرة شحن، ومُنع من المشي مع بوتين على أرضه وبين جمهوره. لكن نجمه سوف يعلو حسب المنجم مايك فغالي، فإما أن هذا النجم صناعي روسي، وإما أنه نجم من نجوم الاستديوهات.
الأموال تذهب وتعود ولا يزال أمام الأسد بيوع كثيرة يبيعها، وكان قد قتل صهره، والصهر أقل القرابات. قالت العرب: "المُلك عقيم لا ينفع فيه نسب لأن الأب يقتل ابنه على المُلك. وقال ثعلب: معناه أنه يقتل أباه وأخاه وعمه في ذلك. والعقم: القطع، ومنه قيل: المُلك عقيم لأنه تقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق". ويُنسب للخليفة العباسي هارون الرشيد قوله لابنه المأمون: "يا بني الملك عقيم ولو نازعتني أنت على الحكم لأخذت الذي فيه عيناك"، أي لقطعت رأسك. في الدكتاتورية لا إخلاص دائم، والخيانة ضرورية لاستمرارها.
وكثيرة هي شواهد التاريخ على صراع الإخوة على السلطة. وكان حافظ الأسد قد أبعد أخاه من غير قتل، وهو الوحيد الذي انقلب عليه انقلاباً حقيقياً كاد أن يؤدي به، والسبب في عدم قتله طريف: أن شقيق الرئيس كان من طائفته العلوية الكلازية، فالرئيس كان طائفياً، أما صراع الأخوة الدامي في التاريخ، فالشواهد كثيرة تبدأ من قابيل وهابيل ولا تنتهي بمحمد بن سلمان الذي قلب العائلة كلها. الأمراء يعيشون في ذعر، وعلى رأسهم الأمير أحمد آخر أبناء الملك المؤسس.
انتهت عاصفتا الأمل والحزم بخسارتين مؤكدتين هو أن العاصفتين أخزيتا صاحبهما وابن صاحبهما. ويتفاءل كثيرون بثورات الجزائر والعراق ومصر الثانية، التي تسمى بالموجة الثانية، ولن تخلو الأمة من خير، فالخير فيها إلى يوم القيامة، لكن العدو شديد القوة وكثير المكر، وآخرون يتفاءلون بتجاوز محمد بن سلمان محنة اليمن وابتلاعه جريمة الخاشقجي، وقد تكون الديّة من حرمة الحرمين، مثل زيارة نجوم سينمائية إلى الحرم، وإطلاق اسم راقصة على أحد أبواب الحرم.. إلهام شاهين ومن في حكمها تصلي في الحرم مثلا.. لكن توقعات كاتب هذا المقال تقول: إن المشهد السياسي سيزداد حلكة، والأمل لا يزال بعيدا، حسب دلالتين وقياسين هما:
إن العدوّين الصهيوني- المسيحي الغربي، والإيراني الطائفي الشرقي؛ كلاهما يسعيان إلى تحقيق نبوءات دينية، الأول يسعى إلى جعل القدس عاصمة لإسرائيل، والثاني يمهّد لقدوم المهدي المنتظر، والنبوءتان تعدان بحروب مدمرة. وهما ضلعان في مثلث متساوي الساقين، وفي الرياضيات تشابه الضلعين يعني تشابه المثلثين، أي تحقيق النبوءة.
إن القاعدة المحشورة بين الضلعين، وهي هنا الأمة الإسلامية، لها أيضاً عشرات النبوءات والمأثورات عن علامات الساعة ونهاية الزمان، كحديث الغوطة الشامية، مع أنها أحاديث معتلة، وقد وقعت وأصابت، وحديث الروبيضة وقد وقع، فنحن في السنين الخدَّاعاتُ التي يصدَّقُ فيها الكاذِبُ ويُكَذَّبُ فيها الصَّادِقُ ويُؤتَمنُ فيها..
المنطق الدرامي يقول إنّ التراجيديا ستصل إلى الذروة؛ لأن الظلم مؤذن بخراب العمران. ليس لأن القائل هو ابن خلدون رائد علم الاجتماع، بل لأن تلك قاعدة في القرآن الكريم، وهي من سننن التاريخ. خذ مثلاً هذه الكوارث: تبوأ السيسي مصر، وهو أدنى أهل مصر عقلاً، والتمديد للأسد لدورتين أخريين، وصعود حفتر، وغزو بن زايد للعالم الإسلامي مثل الإسكندر..
قد نرى إيفانكا في الحرم، بل قد يسمح الملك السعودي بتمثيل فيلم مغامرات في الحرم، حتى يثبت محمد بن سلمان بأنه حداثي، ومطيع للغرب، وينتصر للنساء، وهو حداثي على حساب المسلمين ودينهم الذي يباع بثمن بخس، لكنه ملك قبَليّ أيضا فلن تظهر زوجته في المشهد السياسي ولا أمّه قط. انتظروا، سيدفع ابن سلمان والأسد والسيسي الديّة، وستكون على حساب الأمة ودينها.
نحن نمضي إلى المصائب، ومصائب قوم عند قوم فوائد، وكأننا ننفّذُ النبوءات الدينية التوراتية والإسلامية كسكريبت سينمائي حرفاً بحرف.
وكل هذه المصائب بشارات أيضا.
وسوم: العدد 845