التوازن سر البقاء

التوازن سر عظمة هذا الكون وجماله، وهو سمة من سماته، قال تعالى في سورة الرحمن: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ، وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)، وقال في سورية يس: (وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). توازن دقيق وانضباط بارع بين سماء الكون وأرضه، وشمسه وقمره، وحره وقره، توازن في النظام البيئي والمناخي، وبين الأفلاك، ولولا هذا التوازن الدقيق لفسدت السماوات والأرض ولا كان هناك حياة.  

والتوازن أيضا هو سر جمال شريعتنا السمحاء، وسر بقائها وسبب صلاحها لكل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، توازن في علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بالناس، وعلاقته بالمخلوقات حوله.

والتوازن سر نجاح الإنسان وسعادته في هذه الحياة، فلا يزال الإنسان سعيدا ما دام يوازن بين أمور حياته وجوانبها المختلفة، فإذا مال إلى جانب كان ذلك ولابد على حساب جانب آخر، فيحدث الخلل والاضطراب، فالإفراط في جهة لابد وأن يقابله تفريط في جهة أخرى. الإفراط في طلب الدنيا والانغماس فيها يؤدي إلى التفريط في عمل الآخرة.

والإفراط الشديد في العمل والانشغال به يؤدي إلى الحيف على حقوق الزوجة والأسرة والأولاد، حتى الإفراط في العبادة قد يؤدي إلى تضييع من تعول.

والتوازن هو الخط الفاصل بين الإفراط والتفريط، ويشمل كل جوانب الحياة، توازن بين الحقوق والواجبات، بين الروح والبدن، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة، بين العلم وبين العمل، بين مصالحنا ومصالح الآخرين، توازن في طلب المال، في تقييم الأشخاص، في النظر إلى الأمور كلها بدقة وأناة.

والتوازن يضبط للإنسان فضائله ويحفظها من أن تتحول إلى رذائل:

فهو كريم كرماً لا يصل إلى حد التبذير.

شجاع شجاعة لا تصل إلى حد التهور.

جريء جرأة لا تبلغ به حد الوقاحة.

حذر لكنه حذر لا يصل إلى الخور والخوف والجبن.

متوكل على الله توكلا لا يصل إلى حد الإهمال والدروشة والتواكل وترك الأسباب.

مقبل على الآخرة إقبالا لا ينسيه الدنيا ولا يمنعه عن طلب رزقه وتحسين أوضاعه المعيشية.

والتوازن مطلوب من الجميع وخاصة الحاكم وولي الأمر فهو أحق بالتزام الموازنة في كل شؤونه وتصرفاته فهو القدوة والنبراس، فإذا صَلُحَ صَلُحت الرعية، ومن هنا يُنظر للحاكم وتصرفاته وأعماله، من خلال من يوليهم على مصالح الناس، في وضعه الرجل المناسب في المكان المناسب، ومن يختارهم ليكونوا مستشاريه وأصحاب الرأي في دولته يصدقونه المشورة، ويناصحونه الرأي إذا أخطأ أو حاد عن جادة الصواب، فهو قائد السفينة وربانها، وعليه واجب أخذ الأسباب في حسن قيادتها حتى الوصول بها وبمن فيها إلى بر السلام والأمن والأمان.

عرفت رجلاً كان يعمل مستشاراً عند أحد الرؤساء العرب، ويقدم له التقارير الشهرية عما يقوله الناس عنه ونظرة الدول والسياسيين إليه وإلى سياسته وخططه، وكان من ضمن عشرة كان هذا عملهم، وكانوا من كبار المفكرين والسياسيين والدبلوماسيين في الدولة، وعملوا في مناصب كبرى (وزراء وسفراء وعسكريين)، قلت لصاحبي: أستحلفك بالله هل تقولون له الحقيقة؟ صمت ثم التفت يمنة ويسرة وقال: والله لا، قلت له: أنتم مؤتمنون فكيف لا تقولون له الحقيقة؟ قال: حياتي أهم من أن أصدقه القول، قلت وماذا كنتم تكتبون له؟ قال: ما يشتهيه ويحبه، وتابع قائلاً: كان معنا (فلان) صدقه القول في تقرير له فكان أن اختفى عن وجه الأرض، وكلنا يعرف مقولة عمر بن الخطاب: (لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها)، فأين نحن من هذه المقولة، فلا رئيسنا عمر ولا نحن مستشاروه وأصحابه.

وجود مثل هؤلاء الحكام هم مصيبة على الأمة، وبالتالي لن يجد الحاكم أمامه من ينصحه أو يصدقه وقد أبعد الصلحاء والعقلاء وقرب الفاسدين والمضلين، فحلت الكوارث على الأوطان، والضحية هي الشعوب دائماً، كحال شعوبنا العربية التي تتقلب على الجمر من فعال حكام طغاة يفعلون ما فعله فرعون حين جمع قومه فنادى فيهم متبجحاً مفتخراً بملك مصر وتصرفه فيها:  (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي)، (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) على الضلال الذي هو فيه ووافقوه على الفساد الغارق فيه، ولا يوافق على الفساد إلا المنتفع به، وأهلَ الطيش والرعونة وعدم التفكّر في الأمور.

لقد دمر هؤلاء الحكام البلاد وقتلوا وشردوا العباد وحرقوا الأخضر واليابس في أوطانهم، ولا يزالون يخوضون في نفس الطريق بلا تراجع أو التفات إلى نصيحة أو مشورة من أحد، فلم يبق حول هؤلاء إلا الحاشية الفاسدة والمستشارين الأشرار السفهاء، مهمتهم تصديق ما يقول الحاكم؛ والترحيب بكل ما يقوم به، ومثال ذلك ما نراه اليوم في سورية ومصر والعراق وبعض دول الخليج وغيرها من البلدان العربية بنسب متفاوتة.

وسوم: العدد 845