إسقاط غير صحيح... وقياس مع الفارق
لقد خلق الله آدم بيده ، فسواه وعدله وصوره ، وجعل خلقه في أحسن تقويم ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ومنحه العقل والحواس ، وجعله قادرا على تحصيل العلم والمعرفة ، وميزه على سائر مخلوقاته بما أعطاه من حرية الإرادة ، والقدرة على الاختيار . وبما رتب على ذلك من المسؤولية والحساب . كما أسكنه في الأرض وجعله خليفة فيها ، وكرم أبناءه بحملهم في البر والبحر ، وفضلهم على كثير من خلقه تفضيلا ، فسخر لهم ما في السموات و الأرض . وهيأ لهم أسباب الحياة ، بما خلق لهم من المعايش ، وبما رزقهم من الطيبات ، فأغدق عليهم من عطاياه ، وحفهم بنعم لا تعد ولا تحصى ، وأحاطهم بعنايته ورعايته ، وطلب إليهم أن يعبدوه وحده ، وألا يشركوا به شيئا وأن يتبعوا هداه ، وألا يركنوا لسواه ، ووعدهم على ذلك سعادة في الحياة الدنيا ، وفوزا في الحياة الآخرة.
وبناء على ذلك فلم يخلق الإنسان عبثا ، ولن يترك سدى ، فلقد ألهمه الله الفجور والتقوى ، وأقدره على تزكية نفسه وتدسيتها ، كذلك فطره على توحيده ، وجعل آياته في الآفاق والأنفس شاهدة على ذلك ، كما تعهدته العناية الإلهية بالرسالات والتعاليم ، يحملها الأنبياء والرسل ، آيات تتلى وصحفا مكتوبة . يعرف الإنسان من خلالها كيف جاء إلى هذه الدنيا ، وما هو مركزه فيها؟ وما هي الوظيفة التي يؤديها؟ وما هي النهاية التي سينتهي إليها؟
كما يعرف ربه وخالقه ، من خلال صفاته وأفعاله ، التي تميزه عن غيره ، فلا يشرك في عبادته أحدا. كذلك يعرف من خلالها التوجيهات الإلهية والتشريعات التي ينبغي اتباعها ، لئلا يضل في حياته أو يشقى.
وهكذا نرى ، من خلال القرآن الكريم –الرسالة الخاتمة- أن الإنسان مستخلف في الأرض من قبل الله تعالى ، ومطلوب منه أن يعمر الأرض بمنهج الله ، وأن يحقق عبوديته لله من خلال تطبيق هذا المنهج . وأن يستعمل في ذلك كل ما أعطاه الله من طاقات وما أمده به من قوى ، وما آتاه من القدرة على الاختراع والاكتشاف.
ولقد قامت الأمة الإسلامية –منذ نشأتها- على هذا التصور الصحيح للوجود ، ولوظيفة الإنسان فيه . فأنشأت حضارة إنسانية فريدة من نوعها ، تميزت بجمعها بين مطالب الروح ، ومطالب المادة .
كما وازنت بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة ، وبين العمل في الدنيا والعمل للآخرة . فلم تهمل جانبا من جوانب الحياة لحساب جانب آخر ، كما لم يطغ فيها جانب على غيره من الجوانب - وكما حدث في الحضارات الأخرى -.
ثم حدث أن دخل الانحراف ، إلى تصورات الناس مع الأيام ، وابتعدوا عن التصور الصحيح الذي جاء به الإسلام في القرآن والسنة . وبدأ الواقع السلوكي يتأثر بذلك الانحراف ، وزادت رقعة الانحراف مع الزمن ، وكان ذلك نتيجة عوامل داخلية وخارجية لا مجال هنا لتفصيلها . وغدت الصورة مشوشة والواقع كئيبا ، وطويت صفحة من صفحات المجد والقوة لهذه الأمة ، وفتحت صفحة من صفحات الضعف والانحطاط.
وكان أن وقعت الأمة نتيجة لذلك ، في قبضة الاستعمار الغربي ، فاعتبرها فرصته التاريخية أن يحول بين هذه الأمة وبين النهوض من كبوتها مرة أخرى . فحاول تمزيقها وتفتيتها إلى دول ود ويلات ، وبذر بين أبنائها بذور الفتنة والاختلاف ، وأشاع حول عقيدتها الشبهات والشكوك ، وطرح لها البدائل والأفكار.
وأوهمها أن النهوض والتقدم رهن عقيدته ونظمه . وأن عليها أن تسير قيد الخطوات التي سارها ، وأن تلتزم المناهج التي التزمها . فثقافته هي الثقافة المثالية ، وتاريخه هو التاريخ الذي لا محيد عنه ، وقيمه هي القيم التي لا بد أن تسود ، و موازينه هي الموازين التي لا بد أن تحكم .
وساعده على ذلك ما وصل إليه من تقدم في علوم الكون ، ومعرفة بأسرار المادة ، ومخترعات ومكتشفات ، وأجهزة اتصال وتحكم ، وأسلحة فتاكة مدمرة ، فهيمن بذلك كله واستعلى ، وأخذ يملي على الآخرين ما يريد ، ويطلب إليهم الاستجابة لما ينبغي.
واستطاع الغرب أن يحقق في الواقع أكثر مما كان متوقعا - وإن كان دون ما يريد- فنشأ في العالم الإسلامي تيار مفتون بثقافته وأفكاره ، وأخذ يدعو إلى التغريب ، ونبذ كل ما له صلة بالعروبة والإسلام . واستطاع هذا التيار أن يعيق النهضة الإسلامية المرتقبة بعض الإعاقة ، وأن يبلبل الأفكار ويشوش الأذهان بما يلقيه من أفكار الغرب وطروحاته.
غير أن الأمر الذي لم يكن بالحسبان ، هو أن الشبه والشكوك التي أثيرت حول الإسلام ، وعقائده ونظمه وتارخه ، بقصد عزله عن الحياة وإقصائه عن الواقع ، لم تكن لتنطبق على الإسلام ، لأنها لم تكن واقعا تاريخيا له في يوم من الأيام . ذلك أنها نفس المآخذ التي أخذت على الدين المحرف عند الغربيين ، وعلى تاريخه الحافل بالتخلف ، ومحاربة العلم واضطهاد العلماء .
ومن ثم فإسقاط التاريخ الغربي على التاريخ الإسلامي ، وإسقاط عقيدة الغرب المحرفة ، على الوحي الإلهي ، المحفوظ في القرآن من التحريف والتبديل ، إسقاط غي صحيح . و قياس الدين - كما هو في الإسلام - على الدين - كما هو عند الغرب - قياس مع الفارق . ونقل مشكلات التاريخ الغربي وفرضها على الواقع الإسلامي تحكم لا مسوغ له ، ولا يقبل به أحد . لأنه لا رصيد له من الواقع.....
ومن ثم فقد شاعت في عالمنا الإسلامي ، طروحات تتعلق بفصل الدين عن الدولة قياسا على ما عند الغربيين:
" دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله "
وقد تناسى أصحاب هذه الطروحات ، حقيقة الإسلام وموقفه من هذه القضية: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك(1)"
" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما(2)"
وذلك بالإضافة إلى الواقع التاريخي الإسلامي الذي جمع فيه الإسلام بين الدين والدولة ثلاثة عشر قرنا أو تزيد....
كذلك كثر الحديث عندنا ، عن الصراع بين الدين والعلم ، قياسا على ما حدث في التاريخ الأوروبي ، من صراع بين الكنيسة ورجال الدين من جانب ، وبين العلماء من جانب آخر ، علما بأن مثل هذا الأمر غير وارد في الإسلام أصلا .
ذلك أن نصوص الوحي الإلهي - كما هي في القرآن - ليس لمثلها وجود في دين الغرب المحرف ، وبالتالي : فلا يمكن أبدا أن تتعارض نصوص الوحي القرآني ، مع حقائق العلم ومكتشفاته ، لسبب واحد هو أن القرآن وحي إلهي صادر عن الله سبحانه . ولأن الكون مخلوق لله سبحانه .
فإذا حدثنا الله في القرآن المنزل من عنده ، عن الكون المخلوق له ، فلا بد أن يكون حديثه صحيحا ، لا تناقض فيه ولا اختلاف ، لأنه الخالق العالم بأسرار الكون ، ولأنه المتكلم العالم بما يقول .
بل إن الله ليؤكد لنا ، بأن مثل هذه الاكتشافات العلمية ، إنما هي دليل على صحة الوحي الإلهي ، وآية على صدقه :
" سنريهم ءاياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق(3) "
" وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون(4)"
أما التعارض بين الدين - كما هو عند الغربيين - وبين العلم ، فليس تعارضا بين الوحي الإلهي ، وبين العلم . وإنما هو تعارض بين ما كتبه رجال الدين بأيديهم ونسبوه إلى الله وبين العلم.
كما أن تاريخ الإسلام يشهد ، بأن البحث العلمي وفق المنهج التجريبي ، إنما كان نتيجة لتوجيهات القرآن الكريم ، بالدعوة إلى النظر والتفكر، واستعمال العقل والحواس:
" ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا(1) "
" والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون(2 "...
ومن هنا فقد ازدهرت العلوم الكونية ، بشتى فروعها في الحضارة الإسلامية ، ولقي العلماء ، من الرعاية والتشجيع ، ما لم يلقوه في تاريخ أمة من الأمم .
ولم يعرف تاريخ الإسلام ، محاكم تفتيش ، كما لم يعرف طبقة ولا سلطانا لرجال الدين ، كما عرف ذلك التاريخ الأوروبي .
ومن ثم ، فإن الذين يريدون نقل هذه المعركة ، إلى واقع المسلمين واهمون . وما عليهم ألا أن يجيلوا طرفهم ، في واقع المسلمين المعاصر، ليروا أن معظم المجلين والسابقين ، من العلماء والباحثين ، هم الملتزمون بقيم الإسلام وتعاليمه.
كذلك يكتبون ، عن التعارض بين العقل والوحي .أو عن الصراع بين المعقول والمنقول . و بين العلمي والغيبي . وكلها طروحات غربية ترجع إلى تاريخ أوروبا المسيحية ، أو إلى تاريخها الروماني والإغريقي .
وقد حدث أن طرحت بعض هذه الأفكار، في التاريخ الإسلامي ، حينما ترجمت الفلسفة اليونانية إلى العربية ، وتركت آثارها في مؤلفات بعض الفلاسفة المسلمين. وكتاب " درء تعارض العقل والنقل " لابن تيميه خير شاهد على ذلك . على أن اللافت للنظر، أن طرح مثل هذه الأمور في تاريخ الإسلام أو في الواقع المعاصر ، لم يكن بسبب داخلي ، وإنما هو دائما بسبب خارجي .
وهذا يدل على أن مثل هذه القضايا تقحم إقحاما ، ولا مكان لها أصلا في التصور الإسلامي ، وإنما كلها ترجع إلى تصور آخر مغاير للإسلام ، وبالتالي فلا مجال للمقارنة والقياس.
وهكذا نرى أن معركة التغريب ، التي فرضت على هذه الأمة ، نتيجة الهيمنة الغربية من جانب ، ونتيجة الانبهار عند البعض ، بثقافة الغرب وإنجازاته ، من الجانب الآخر . لم تستطع أن تحقق ما تريد ، بل إن كل ما حققته من إنجازات في هذا القرن ، بدأ يهتز نتيجة الوعي الإسلامي المتزايد بحقائق الإسلام وقيمه وتاريخه .
فلقد انكشفت الحجب ، وسقطت الأقنعة ، وأزيح الستار ، فإذا بالبلاد الإسلامية التي وقعت في قبضة الغرب ، وأدارت ظهرها للإسلام . لم تحرز التقدم العلمي الذي كانت تأمله ، ولم تصل إلى القوة التي كانت تنشدها . فلم تحصد من تبعيتها للغرب سوى الفقر والضعف والمهانة ، وأصبحت عالة عليه في كل شئ .
ومن ثم بدأت الجماهير الإسلامية تعود إلى نفسها باحثة عن ذاتها ، مفتشة عن مصدر قوتها . فلم تجد أمامها إلا الإسلام العظيم ، فارتمت في أحضانه تتفيأ ظلاله ، وتتنسم عبيره ، وتنشد عنده القوة والتقدم والنجاح . بعد أن اتبعها طول السرى ، وأجهدها الجري وراء السراب الخادع ، والضرب في التيه على غير هدى.......
" والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون(1) "
وسوم: العدد 845