تحول تاريخي

أ.د أحمد حسن فرحات

لقد عرف العرب قبل الإسلام بأنهم أمة أمية ، وكما عبر عن ذلك الرسول r بقوله : " إنا أمة لا تكتب ولا نحسب " كما أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة التاريخية بقول : " هو بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " [1]

ثم غدت هذه الأمة بفعل الإسلام ومنهجه وتوجيهاته أمة علمية من الطراز الأول ، ثم ذلك كله خلال فترة زمنية قياسية ، واستطاعت هذه الأمة أن تخرج أجيالاً من العلماء يندر وجود مثلهم في أمة من الأمم كما ونوعاً ، كما استطاعت أن تستوعب علوم السابقين الأولين ، وأن تتقدم بالعلم والمعرفة خطوات إلى الأمام ، وأن تضع ميسمها على كل علم وفن ، وأن تشيع المنهج العلمي في كل مكان وصلت إليه وأن توظف ذلك كله لخير الإنسان والبشرية ، فكانت بحق خير أمة أخرجت للناس .

إن هذه الحقيقة التاريخية الصارخة التي تفرض نفسها على القاضي والداني والتي لا يستطيع أن يتجاهلها المكابر أو المعاند ، تحتاج منا أن نقف أمامها متأملين وأن نفكر فيها متدبرين ، لنتفهم أسرار هذه التحول التاريخي الكبير ، والذي هو أشبة بالمعجزة منه بالحدث العادي ، والذي لا نظير له في تاريخ الأمم والشعوب ،فإن التعرف على ذلك ربما يفيدنا في نهضتنا المعاصرة ويعجل بانطلاقتنا ، ويجعلها على الطريق القاصد ، ويوفر  عليها كثير من العوائق والمزالق ، والخطو العاثر ..

إن أولى الحقائق التي تفرض نفسها على المتأمل المتفكر : أن الإنطلاق إلى طلب العلم كان بنفس الحماس لطلب الدين ، بل كثيراً ما قرئت النصوص بينهما واعتبرت تحصيل أحدهما تحصيلاً للآخر ، حتى غداً الدين هو العلم ، والعلم هو الدين ، والنظر في مثل هذه النصوص :

" أمن هو قانت أناء الليل يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون "

" يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات "

[ من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنـــة  ]

ومن إطلاق لفظ " العلم " على الذين نجد الآيات التالية :

ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير "

ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين "

وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم "

فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا..........."

وأمثال هذه الآيات كثير جداً في القرآن الكريم .

و" العلم " في اصطلاح القرآن أوسع مما عرف بعد ذلك بالعلوم الشرعية ، فهو كثيراً ما يراد به الحقائق التي لا تقبل النقض ، واليقينيات التي لا يداخلها شك ، وربما كانت لنا عودة لتحقيق مصطلح " العلم " في القرآن

وثاني هذه الحقائق : أن الأمة انطلقت باتجاه العلم بكل طاقاتها وإمكاناتها

فلم تضع للعلم ميزانية محدودة ، كما لم تضع لطلبة شروطاً ولا قيوداً ، وجعلته واجباً على العلماء ، وحقاً لطلبة العلم ، بل جعلته مشاعاً ، ممكناً لكل من أراد ، بل إنها ذلك الدولة بساستها واقتصادها ، كما شارك في ذلك أهل الخير من المسلمين ، حيث أوقفوا الأوقاف ، وأجروا الجرايات الخيرية على المدارس وطلبة العلم ، وربما فاق هذا الجهد الشعبي الجهد الحكومي في كثير من الأحيان ، وإن نظرة سريعة على الواقع الذي كان سائداً في عالم الإسلام في بداية القرن  الرابع عشر الهجري كفيلة بأن ترينا هذه الحقيقة مائلة للعيان ، فإننا نجد في مدينة واحدة مئات المدارس الخاصة وما يتبعها من المساكن الملحقة بها ، والتي أوقفت على طلبة العلم واستاذتهم ، إنها ميزانيات خاصة تبرع بها أهل الخير لتكون نفقات دائمة للعلم والعلماء ، وما تزال آثار هذه الأوقاف في بعض البلاد الإسلامية قائمة تشهد بصدق هذه الحقيقة ..

وثالث هذه الحقائق : أن هذه الانطلاقة العلمية لم تقف عند حدود العلوم الشرعية الدينية ، بل تجاوزتها إلى أنواع العلوم والمعارف الأخرى ، وأصبحت البلاد الإسلامية مهوى  أفئدة الدارسين من جميع أنحاء العالم ، وعلى سبيل المثال : فهذه مدينة القيروان التي لم يكد يبزغ عليها فجر القرن الثالث الهجري حتى أصبحت كعبة  القصاد لطلاب العلم الواردين عليها : من الأندلس ، والمغرب ، والسودان ، حيث انتشرت فيها العلوم : الدينية ، والأدبية ، والرياضية ، في جميع الطبقات يفضل الرواة الوافدين عليها بالخارج والراجعين من أبنائها من رحلاتهم العلمية إلى الشرق في القرن الثاني للهجرة "

وقد روى ابن ناجي في كتابة " معالم  الإيمان " أن عبد الله بن غانم ، انصرف يوماً من الجامع الأعظم بالقيروان بعد صلاة الجمعة ، فدخل عليه بعض أصحابة فسألة ابن غانم : هل حضرت الجامع ؟ قال : نعم قال ابن غانم : كيف رأيت ؟ قال : رأيت – أصلحك  الله – به سبعين قلنسوة تصلح للقضاء ، وثلاثمائة قلنسوة فقيه فرجع ابن غانم ، وقال متأسفاً : مات الناس "[2]

وليس منى كلام ابن غانم : أن الناس قد انصرفوا عن العلم ، وإنما معناه أنهم لم يعودوا يقتصرون على العلوم الدينية وحدها ، بل هم توزعوا على جميع أنواع المعرفة التي عرفتها القيروان في تلك  الأيام ، مما جعل عدد المقبلين على العلوم الدينية  أقل مما كانوا عليه سابقاً "

هذه بعض الحقائق التي تفرض نفسها على المتأمل ، ونكتفي بهذه الحقائق الثلاث دون غيرها ، لنلقي نظرة سريعة على واقعنا العلمي المعاصر ، فماذا نرى ؟

أصبحت وظيفة التعليم مناطة بالدولة وحدها في كثير من الأحيان ، وتقلص الجهد الخيري العشبي إلى درجة كبيرة ، حتى أصبح غير موجود في كثير من البلدان ، وضمت أوقاف التعليم الإسلامي التي كانت مستمرة خلال العصور إلى الميزانيات الرسمية ، بحجة أن الدولة هي القائمة بأمر التعليم .

قامت بعض الدول العربية بالإتفاق على مجموعات من طلبة العلم ، وكان جهداً رائداً ومشكوراً ، ولكنه لم يستمر ، فتوقف نتيجة ظروف معينة .

يوجد في بعض البلاد العربية والإسلامية مدارس خاصة وجامعات خاصة،  ولكنها ذات أهداف تجارية أو  تبشيرية ، ومن ثم فلا يمكن مقارنتها بما عرفة تاريخنا من المدارس والجامعات التي لم تكن مباحة لكل طالب بدون مقابل فحسب ، وإنما كانت تعطي مفاجأة لطالب العلم ، وتقدم له كل ما يحتاج إليه من مسكن وملبس وأدوات .

كذلك يوجد بعض المؤسسات الخيرية الإسلامية التي تساعد في التعليم بعض المساعدة ، ولكنها ليست بالقدر الكافي

على الرغم من كل ما تبذله الدول العربية والإسلامية من نفقات على التعليم ، فإنه غير واف بالغرض ، بدليل أن كثيراً من طلبة العلم لا يجدون مكاناً لهم في صفوف الدارسين بحجة قلة عدد الجامعات ، أوقلة أعضاء هيئات التدريس ، أو قلة الميزانيات المخصصة للتعليم ... أو غير ذلك من الحجج التي ما أنزل الله بها من سلطان ، حتى أصبح كثيراً من الطلبة مهددين بالضياع نتيجة لذلك .

إن كل ما يعتذر به عن وجود هذه المشكلة لا يصلح عذراً ، لأن البلاد العربية والإسلامية تملك من الأموال والثروات ما تستطيع به أن تسد أضعاف أضاف هذه الحاجات وغيرها ، وعلى المؤسسات العربية والإسلامية ، كالجامعة العربية ، ومنظمة المؤتمر الإسلامي .

وأمثالها ، أن تتصدى لعلاج هذه المشكلة ، حتى لا يقع أبناؤنا في أيدي أعدائهم الذين ينشطون لاستغلال الحاجة في مثل هذه الظروف .     

يحس بأغنياء المسلمين وأهل الثراء : أن يواجهوا اهتمامهم إلى الإنفاق على التعليم ، وألا يكفوا بقصر الإنفاق على مشاريع الخير الأخرى ، فالحاجة إلى العلم أساسية وهامة ، ولهم في سلفهم  الصالح خير أسوة وقدوة ، فليعيدوا إلى حياة المسلمين المعاصرة ما عرفة تاريخهم من أوقاف خيرية ، تبنى بها المدارس ، وتشيد بها صروح العلم ، وينفق منها على الطلبة والدراسيين ، فيتفرغوا للدراسة والإبداع ، بعيداً عن هموم الحياة ، وصعوبة المعاش ، ويكون هذا الإنفاق لأهل الخير صدقة جارية إلى يوم القيامة ، لا يقل عن الإنفاق في الجهاد والقتال ... والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

[1] سورة الجمعة آية : 2

[2] معالم الإيمان : 1232

وسوم: العدد 847