جنون العبقرية
تراودني أفكار غريبة، قريبة من الجنون، تنتهك اصوليات المنطق، وتهتك ستر الأشياء، كالطموحات الممزوجة بتوتر وغليان لا يهدآن، يقال أحيانا بان المس ينقل الانسان الى اقصى درجات الادراك والعمق، بعكس ما هو سائد في المفهوم المرعب للشعور المستتر خلف الخوف من الغريب والمستهجن، او بصورة اصح، خلف المستبد القاتل بسادية تمتزج بها النرجسية.
مثلا، فكرت ذات مرة ان احمل جسدي لأضعه على ناصية شارع مهجور غير مطروق، واتركه هناك انتظارا لمار او طارق، ربما عام، وربما مئة مليون عام، وكان علي ان اخضع روحي ومشاعري للبقاء في حالة يقظة مستمرة دون الشعور بالإعياء او الوهن والوسن، ولان طبيعة الجسد مرتبطة بالروح، شعرت بغصة وانفصام هائل اودى بذاتي الى معتقل الواقع والعجز، مرضت مرضا شديدا، وبكيت، اُرهقت كثيرا، وفجأة، شعرت بثقل هائل، قلت: استطيع ان احقق كل ما صبوت اليه، ليس فقط لمئة مليون عام، الى ازمان يعجز العقل عن احصائها، كل ما علي الانخراط بالجنون الاعمى والحلم المسحوب من مساحات الزمن.
أهكذا هي الأشياء، تحمل مسميات نعرفها دون ان ندركها؟ لم تكن حالات الجنون المتعاقبة التي توصلني الى مرحلة الهذيان والتحطم والتردم، بمنأى عن تفكيري بالقارئ، والكاتب الذي هو انا.
ماذا اريد ان اكتب؟ وماذا يريد القارئ مني؟ امران لا ينفصلان عن بعضهما ابدا، هناك الواقع الذي يسجل لحظات العمر، وهو امر يشحن المفردات والجمل بتقلبات ورجرجات كثيرة، تقنعني أحيانا باني وفقت في نقل فكرة او صورة او حدث الى مربع المكان والزمان، كثير من القراء يؤيد ذلك، اما انا، فبعد أيام من نشر عمل ما، اعود اليه مرة أخرى، فاشعر انه خال من الجنون والصدمة التي اردت، تنتابني كآبة ويشدني حزن، فاكتب شيئا جديدا اريد منه الانفلات من الواقع والمدرك، ليكون فوق حالة الجنون والتأرجح والانصهار، بحثا عن عالم لا يمت الى عالمنا بصلة، عالم له خصوصية التداخل والاشتباك والتناثر والتجمع والانفلات والتشتت، لا تحكمه حكمة او يزوره منطق، بل تتكون حكمته من تناقضاته التي تتناقض مع الحكمة والمنطق وتضاد، اعود مرة أخرى لأقرا من جديد ما كتبت، اشعر باني ما زلت استخدم ذات الحروف التي استخدمها سقراط وافلاطون، وهي ذات الحروف التي استخدمت برسم ما في عهود ما قبل التاريخ والتطور.
" أليس من الغريب ان الطرقات تصبح أطول عندما نشتهي الوصول" هذا ما يقوله قس بن ساعده، ومحمود درويش يقول " لم نفترق ...! لكننا لن نلتق ابدا ...!!"، هذا صحيح وينطبق على كل ما يمكن التفكير فيه، اللهاث المتواصل بين طرفي النقيض يشكل هاجسا نَتَغَياه من اجل الوصول الى الاقتران المطلق رغم عدم اللقاء، قس ومحمود اتفقا مع بعد الفاصل الزمني بإحساس الرياح وهي تعكف على نقل الطلع والبذور والرمال من الصحراء والشواطئ الى أماكن مجهولة حتى للرياح ذاتها، لكنهما من خلف العقل والوعي حملا المفردات معان لا تقال، لكنها تحس بشعور المجهول العاجز الكسيح.
هل هذا هو الادب الخارج من منطق الواقع والواقعية، وما هو تعريف الادب أصلا، اشهر التعريفات التي حاولت ان تعطي للأدب اطارا يمكن من خلاله فهم الصورة التي يحتاجها الكاتب والقارئ كانت تحاول عبر تطور المفهوم ان ترضي خلفيات المعرف والتعريف، وان تنزل عند غرور ونرجسية الكاتب والمتلقي، وما يمكن رصده الان من تعريفات معاصرة هي، النسبية، اللاأدرية، الذاتية، لكن هل تكفي كل هذه التعريفات حتى لو دمجت معا لتشكل تعريفا يضع المفهوم الشعوري وحالات التوتر والزخم والجنون والفصام الذي يجتاح الكاتب والقارئ ضمن بوتقة لا يختلف عليها، ليس في التعريف فقط، بل في طبيعة المُعطي والمُعطى، المَؤدي والمُؤدى.
اشك في ذلك، لأننا لا نستطيع مثلا اقصاء الرسام عن حالة من حالات الكاتب، وكذلك النحات، فهذا يكتب بمفردات اللون وذاك يكتب بمفردات الحجر، وكل منهما يحاول الوصول بالفكرة الى مرحلة من مراحل التعبير القصوى، ليس فقط لامتاع المتلقي، بل في محاولة مثقلة باليأس التخلص من توترات وتشنجات الفكرة التي تستعمر استعمارا كاملا منابت الشعور والاحساس الواعي وغير الواعي، وهذا ينطبق تماما على كاتب القصيدة والرواية والقصة والمسرحية، وهنا يتمحور السر الخفي الذي لا يمكن للكاتب او القارئ الادعاء او محاولة الادعاء بانه استطاع ان يدرك المعاني التوترية الوعرة التي تصلب محمود درويش على الواح العذاب والكآبة والعجز القاتل حين كتب رائعته لاعب النرد، وهو ذات السر الذي حاول سلفادور دالي ان يتخلص وينقله كوباء الى الناس في لوحاته المُعذِبة والمُعَذبة، وحياة الرسام بكل ما فيها من غرائبية تكاد تصل الى حد الجنون، تشير الى نوع من العذاب القادر على الخلق والابداع في محاولة للتخلص منه والانتقال الى هدأة قصيرة مختطفة من زمن غير مرئي وغير موجود في مساحات الوقت التي يعرفها الكاتب والقارئ.
الكتابة بشكل عام، هي توق لتسجيل وقائعي للمستحيل على ارصفة واقعية، وجهد يسعى لتحويل الغامض الى معلوم محسوس، وبذلك يمكن ادراجها كمحاولات مستميته للتخلص من الذات والذوات التي تعيش في شخصية الكاتب وتتحكم بها بشكل مطلق اثناء الكتابة او بدونها.
هناك دراسات نفسية حديثة تتجه للتعمق في محاولة متقلقلة معذبة لفهم العلاقة بين الاضطرابات النفسية وبين القدرة على الابداع، وخلصت هذه الدراسات الى نتيجة تثير الفضول، حيث تؤكد بان درجات من الحالات الذهانية الفصامية والهوس الاكتئابي، التوحد، وحالات أخرى كالشك والنرجسية، تؤدي الى مرونة في التفكير وإطلاق الذهن في القدرة على التخيل وخلق أشياء من العدم، لكنها يمكن ان تقود في لحظة ما الى الانفصال الكامل عن مجريات المعتاد ليبقى المريض المبدع يخطو بقوة نحو اضطراب نفسي شديد لا يمكن الخلاص منه او العيش معه.
انا لا اشك بهذا ابدا، فهناك حالات لا يمكن اغفالها أو النظر اليها بعين مجردة، بل بمجهر عال الدقة، لكنه مجهر البحث عن البصمة الذاتية للتحولات والتقلبات والغليان المستمر لنوازع وصفات لا يمكن تجاوز عواصفها وعصفها، فأرنستو همنغواي مَثًل بشكل مباشر حالات التطور والتنقل بين الانا الضخمة التي تسيطر على الفرد بناء على ترسبات ذاتية متراكمة لتبني حالة مرضية قادرة على التعامل مع معطيات العبقرية والجنون في ذات الآن، فهو عاش رغم ثراء عائلته الفاحش النقيض تماما، وحاول من خلال التنقل والترحال ان يطارد هاجس الموت الذي يبرز من داخله ليدنيه اليه، لكنه فشل ونجح، فقد تعرض لأكثر من حادثة كادت تودي بحياته، نجا منها جميعا، لكنه وبعد أعوام، سئم من كونه حيا وربما شعر بان وجوده في الحياة اكثر وقعا وايلاما من موته، لذلك عاش فكرة الانتحار بواقع مرضي فيه الكثير من الجنون، وبلحظة هادئة وادعة نزل من الطابق العلوي، وانتقى بعناية فائقة اجمل وافخم بندقية مطعمة ومرصعة، فتح فمه، وضغط على الزناد.
لم يكن دوستويفسكي بعيدا عن هذه التوجهات ابدا، فهو المريض بالصرع، وهو الذي وقف ينتظر الموت حين انتظم في صف المدانين بالإعدام، وهو أيضا المريض الذي لم يهدأ له بال او تتشبث به لحظة رضى وقناعة تتجاوز الألم والعذاب، شخصياته لا تخلو من مرضه ابدا، ولو خلت لكانت غثة لا قيمة لها على الاطلاق.
فان جوخ قطع اذنه ثم انتحر، جاك لندن، فالتر هارزن، كورت توخولسكي، ارثر كوستلر وزوجته، جميعهم انتحروا بالسم، ستيفان زفايج وزوجته اختارا الانتحار في يوم المهرجان الكبير الذي يقام في ريود جانيرو، اما الاديب جين آمري، فقد اختار يوم افتتاح الكتاب في المانيا ليكون يوم انتحاره، وكأنه يريد ان يوصل رسالة كانت تدور في خلده، او انه أراد موتا احتفاليا لامعا براقا يشد انتباه القراء اليه بطريقة غريبة، فها هو الروائي الإيطالي سيزار بافيز رفع مستوى الانتحار عنده الى مناسبة احتفالية حين صرح بان انتحاره افضل انجاز انجزه في حياته.
هناك أيضا حالات انتحار تكشف عن مرض كامن في العقل والنفس، فمثلا الروائية فرجيني وولف انتحرت خوفا من الجنون، اما الكاتبة الأرجنتينية مارتا لينش، فإنها لم تطق رؤية التجاعيد بوجهها، فقررت الانتحار وهي في الستين من عمرها لهذا السبب.
ما الذي يدفع مثل هؤلاء المشاهير للانتحار؟ اليس الموت ذاته يشكل هاجسا مرعبا عند الانسان قبل المبدع؟ قد يختلف الكثير بالنظر الى الموت كعالم خاص، لكن لا أحد يستطيع ان ينكر بانه يشكل فجيعة قاتلة ومصيبة عظيمة عند الغالبية من البشر.
العاطفة، الحساسية، الانفعال والتوتر، الشعور الواقع بين خيال الذات وواقع الوجود، وما يتصل بكل هذه من مسميات، يكون في حالات الكاتب والشاعر قادم من عالم متكامل من الوهم والخيال والتمني والذاتية المغرقة في توطيد كل هذا بقناعة مستبدة تعيش في ثنائيات متوازية لتشكل حالة مرضية تفتك بغيرها من حقائق الواقع وثوابت الحياة، بما فيها من صح وخطأ. تتوالى العوالم الوهمية بالتداخل في كل المشاعر وتتركز، وتقصي كثير من الضوابط التي من شأنها ان تقلص سيطرة الخيال والوهم، فتتشكل العاطفة في جوف الفكر، كمغذي للتفكير وما يليه من تحليلات تتربص بالشخصية لتنثرها على خيوط حريرية حادة، تجرح وتكون اوراما من حب السيطرة والتفوق والتقوقع داخل ذات -يعتقد صاحبها- بعذريتها المطلقة، حتى تتداخل كل هذه وتلتحم كصبار مدبب ينمو نحو الداخل والخارج.
في هذه الاثناء يتحول الكاتب من كائن عادي، الى كائن مرهف محمل بالشفافية والرقة التي تغزل تطلعاته نحو المجتمع، من خلال رؤى ضبابية مثقلة بعدم الوضوح، وربما عدم المعقول، فهو ليس شخص واحد، هو مجموعة من الشخصيات المسطحة، وكم كبير من شخصيات مركبة، يجدها القارئ بوضوح في طريقة وصف الشخصيات لدى الروائي والقاص، فمن الحنكة للباحث والقارئ ان يرى الكاتب وما به من شذوذ عميق في الشخصية، من خلال مزج الشخصيات المركبة، السلبية والايجابية، الجانبية والاساسية، في شخصية الكاتب، لأنه مزيج معقد وصعب وثقيل من كل تلك الشخصيات، وليس فقط من شخصية البطل او شخصية الايجاب والخير في الرواية، وهذا ما يدفع الرواية او القصيدة او القصة، الى مرتبة العالمية بجدارة وصولها الى التوترات التي تعتصر الكاتب من كل الأعماق النفسية وتعتصره حتى يصل الى حالة من حالات الذهان المركبة من كل تلك الشخصيات وما رافقها من تفاصيل سجلت على الصفحات، وتفاصيل تم اعدامها داخل الشعور والاحساس للتعفن هناك، وتضخ سموم اوزار اعدامها.
ليس هناك على الأرض من يستطيع ان يدعي، بان الكاتب الذي وصل الى المرحلة التي سجلناها، له شبيه في الحياة الا من هو مثله، فلو افترضنا أن انسانا عاديا مر على طفلة صغيرة شوهتها ظروف الفاقة والفقر لتجلس على حافة رصيف تستجدي الناس لقمة عيش، ومر عليها كثير من الناس، فهم سيشفقون عليها، ويحزنون، وربما يبكون، لكن بالنسبة لمن تتحكم به عوالم من الشفافية والرقة، وعوالم من الخيال الخصب والمخصب، فان العالم سيقف محوره هناك، ستزوره الاحلام والكوابيس، يفقد القدرة على النوم، يتحرك باتجاهات متضادة، يبكي ويزدري العالم كله، ثم يبكي ويزدري نفسه لأنه جزء من مشكلة البنت ومشكلة الحياة، سيصدر احكاما على الحياة والوجود والعدالة تدخله في عالم خاص جديد، سيعاف طعم الشراب والطعام، سيلجأ للعتمة والنور بين حين وحين، ويوزع نفسه على سياط من التخاذل وعدم الرغبة في النظر للمرآة.
سيتكوم كل هذا في وعيه ولا وعيه، في مشاعرة واحساساته، في وهمه المنسوج من حالات الذهان والانتكاس والارتكاس، حتى يصل الى لحظة ينفصل فيها عن العالم وعن محيطه، بل وليحمل العالم مسؤولية كل شيء، دون ان يرى في نفسه القدرة على التوافق مع عالم لا يحمل غير الخطيئة والخطأ.
وكلما تقدم السن قليلا، وكثر الألم المركز والمعتق، وتداخلت احداث مع صور وتقلبات، كلما تعاظم المرض واستبد، وكل شخصية جديدة مكتوبة او قابعة في النفس تتقلقل وتترجرج، ستضفي على الشخصية، نوعا جديدا من أشياء مجهولة خاصة التكوين غير المرئي للكاتب، حتى تصل الى الوقوع في تناقضات شديدة السمية، لكنها لا تميت الجسد، بل تشعل التهابا هائلا داخل الروح والنفس والشعور، لتصل الى صلب كل ذلك على اضداد من الوعي المشوي والمشوه، والى لا وعي يصدر احكامه ليس المهم على العالم، بل على الذات التي تنهار داخل ذاتها فتسقط الماضي والحاضر والمستقبل في عمق مأزق له جنين يحتاج الى طلقات ولادة مجنونة، لا ليخرج الى النور، بل ليغوص بعمق المأزق ويتشبث به كمغذ للحياة، ونقطة تكوين للقادم.
ولو اردنا ان نحاول بقدر ما نملك من استطاعة تحويل الانهيارات والتردمات والعواصف والزوابع الوهمية والخيالية في مفردات معينة تكاد تصف ما نصبو الى وصفه، مع التأكيد والقناعة، كروائي وقاص، أقول: بأن احاطة ذلك بالغموض الممعن بالغموض، والمجهول المولود من مجهول، ولا شيء موصول بلا شيء، والاعتراف المطلق بعدم القدرة على تبيين او إيضاح الحالات الشاذة، شديدة الشذوذ، الموغلة بالغرابة والتهويل، هو الوصف الحقيقي للعجز الذي يصيب الكاتب عن فهم ذاته ومحيطه، وهو ذات العجز الذي يحيط بمن يحاول كما أحاول الان تأطير ذلك ضمن مفردات محددة تؤدي كما اريد ان اوهم نفسي والاخرين، باني استطعت تقريب المعنى الذي اريد لذاتي وغيري.
السر الكامن في الكاتب، من حيث الابداع الموصول بالمرض النفسي والذهني، او سمه ما شئت من تسميات، الذوات. الأنا. التي تدور حولها كل الأشياء والمسميات.
الكاتب يملك أنا لكنها ليست واحدة، ويملك ذات ولكنها ليست ذاته او ذات واحدة. والأنا التي يملكها والذات، ليست ثابتة، او موصوفة او محدودة، بل هي متحولة بكل عددها، غيميه مائية، فوقها وتحتها ظلال متدرجة اللون والغموض، تتمدد وتتقلص، تندمج مع رياح وبذور وتويجات، تتلاحم مع شوك وزلزال وبركان، ينصهر كل في ذاته وبعضه، تتكون أنا وذات جديدة، تتمرد تغزوها بيوض نمل ونحل، تتكاثر من جديد، تتمرد، تلوحها اللدغات والتغيرات والحكاك، تنشأ دنى جديدة في الأنا والذات، تحاول ان تتعرف على نفسها، شخصيتها، وجودها، تتوزع بين تحول وتحول، تبدل وتبدل، تصاب بالخضة، بالرجة، تغزوها نوازع الهزيمة، تردها قليلا ثقة بالانتصار، تخيم عليها الخيبة، تتفجر لتخلق عوالم جديدة وأنا وذوات جديدة
لتتحول وتتبدل كما كل تجربة من هذا الى ذاك، ومن شيء الى لا شيء، ومن لا شيء الى شيء، ومن معلوم الى مجهول، ومن مجهول الى مجهول، ومن واضح الى غامض، ومن غامض الى غامض، ليتلاشى المعلوم والواضح، ولا يبقى سوى ثقوب سوداء تخفي مراجل الصهر والاذابة عن كل شيء.
الجنين او بصورة اصح، الاجنة التي تخلق طلقات ولادة حادة، مدوية، كاوية، كي تخلق الإرهاق المتواصل والرعشات النفسية والشعورية، هي الذوات الموزعة في أعماق الكاتب، متحركة، قافزة، تصدر ضوضاء لا حد لها تحت سطح الأنا، تتشقق النفس، تغرق الشقوق بملح صارخ، كل هذه هي شخصية الكاتب المستقل بشكل ما عن العالم، عن المحيط او الدوائر العادية للحياة، فهو مجموع من أَسًى، أَنِين، إِكْتِئاب، تَأَلُّم، تَأَوُّه، تَوَجُّع، حُزْن، شَجًى، وَصَب وبَوَى.
في هذه اللحظة المعبأة بالازدحام، تولد الأنا العظيمة التأثير، لتصدر احكامها على كل الأشياء كما تريد، فيتكون الخيط الناري، الذي يسوق الكاتب نحو الوحدة، التي تقوده نحو الاضطراب المتوائم مع كل ما سبق، ليشكل عوالمه من بناء خاص برؤاه، فينفصل انفصال شبه تام عن المحيط، فيه شيء من الجنون المتمرد، وشيء من التميز في اكتشاف تفاصيل لا يستطيع من لا يملك هذا الاضطراب العاطفي والجنون الذاتي اكتشافها ولو خصص أعمار فوق أعمار.
فليس من الغريب ابدا، أن ترى من الكتاب من تؤنسه الوحدة والظلام، أكثر مما يؤنسه الجمع والضياء، وأن ترى ارنست هيمنغواي يفكر مليا قبل الانتحار، بنوع السلاح، وجماله، واللحظة الوادعة الهادئة التي سيقتل نفسه فيها، فهذا التصرف بالظاهر يوحي بأنه كان ممسكا بزمام الأمور، وأنه يفكر بروية وتأن، ويخطط بذهن واع مدرك حجم اللحظة، لكن الحقيقة انه لا شيء من ذلك صحيح، فهو كان مسوقا سوقا، كالمنوم مغناطيسيا، من ذات أو أكثر من ذات، للتوجه نحو تنفيذ الحكم بالإعدام الذاتي، فهل نستطيع لو حاولنا الان بكل ما نملك من علم ان نصل الى يقين عن الذات التي تمكنت منه ليصل تلك اللحظة، وهل هي ذات واحدة او كم هائل من الذوات التي نشأت مع الطفولة، فالشباب، وما تلا ذلك؟ هل هي الأنا العالية المعتدة بذاتها، ام مجموعة من الأنا التي تمازجت؟ نحن لا نعرف، ولن نعرف. جل ما يمكننا معرفته العودة الى رواياته لنقرأها مرة أخرى من اجل اقناع ذات من ذواتنا بذات من ذواته، دون ان نستطيع الوصول لتقلبات ذاته او ذواته او أناة ولو ادعينا ذلك
هل اريد القول بالنهاية ان العبقري في الرواية هو مجنون؟ نعم بكل تأكيد، هو مجنون عبقريته وذواته ومشاعره وانفعالاته ووجعه وشفافيته وتهويله ووهمه.
ولولا ذلك ما كان بين أيدينا الجريمة والعقاب لديستويفسكي، او قصة مدينتين، او الأم وبين الناس وجامعياتي لتولستوي، وما عندنا فيكتور هيجو، او ابن الرومي ومحمود درويش على سبيل المثال فقط.
وسوم: العدد 851