فتنة المؤمنين بين الأمس واليوم

الصراع بين الخير والشر قديم قدم الإنسان ، وقد بدأ لحظة نفخ الله عز وجل من روحه في الطين الذي خلق منه أول إنسان ،ذلك أن إبليس اللعين لشر فيه أبى أن يسجد لآدم عليه السلام غرورا وحسدا في نفسه ،فكانت تلك هي أول شرارة الشر التي سعرت نار جهنم . وبدأ الشر الشيطاني يتربص بأول إنسان عن طريق الكيد الخبيث  له حتى نال منه، فكان ذلك سببا في خروجه هو وزوجه من الجنة ، وهبوطهما إلى الأرض لاجتياز امتحان آخر فوقها بعد فشلهما في الامتحان الأول وهما في الجنة .

وبدأ الشر الشيطاني يتناسل بتناسل بني آدم فوق سطح المعمور ، وكلما ازداد عددهم ازداد حجم ذلك الشر ، والمخلوق الشرير يراهن على إخراج بني آدم خروجا ثانيا من الجنة وهبوطهم هذه المرة إلى قعر الجحيم .

ولقد سمى الله عز وجل في محكم التنزيل هذا الذي فعله إبليس اللعين بالإنسان فتنة فقال عز من قائل : ((  يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون )) .

والفتنة في اللسان العربي من فعل " فتن " وله دلالة مادية حيث يقال : " فتن المعدن إذا صهر لتختبر طبيعته أو جودته ، وله دلالة معنوية حيث يقال فتن الإنسان في اعتقاده أو دينه أو مبدئه  إذا أريد صرفه عنه إلى غيره .

وفتنة إبليس اللعين لآدم عليه السلام كانت بصرفه عن طاعة خالقه سبحانه فيما نهاه عنه . وكل فتنة يفتن بها هذا المخلوق الشرير الإنسان إنما هي لصرفه عن طاعة خالقه سبحانه فيما أمره وفيما نهاه .

ولقد جعل الله عز وجل اختبار الإنسان في الأرض بعد اختباره الأول في الجنة عبارة عن مواجهة فتنة إبليس اللعين، فمن تنكبها عاد إلى الجنة من جديد، ومن وقع في شركها هوى في قعر الجحيم .

ولقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من الفتن التي فتن بها عباد الله المؤمنين ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر فتنة  المؤمنين التي ذكرت في سورة البروج ، حيث حاولت فئة كافرة فتنتها عن دينها لصرفها عنه ، وخيّرتها بين الانصراف عنه وبين اقتحام أخدود أضرمت فيه نار ، فثبتت الفئة المؤمنة أمام هذه الفتنة التي هي من تدبير إبليس اللعين ، وتنفيذ الفئة الكافرة الظالمة التي سخرها لبث شره . ولقد وردت هذه القصة لتثبيت الفئة المؤمنة في بداية دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وهي فئة تعرضت لفتنة كفار قريش الذين حاولوا صرفها عن الإيمان  عن طريق تعذيبها إلا أنها ثبتت على إيمانها ، وتحملت  العذاب من أجل ذلك .

وتوالت فتن الفئات المؤمنة  من تخطيط إبليس وقبيله ، ومن تنفيذ فئات جائرة إما بدافع كفر أو بدافع ظلم ، كما كان الشأن بالنسبة للفئات الصليبية في المشرق وفي الأندلس وغيرهما من بقاع الأرض، والتي فتنت المؤمنين بشن حروب جائرة عليها ، وكانت فتنة المؤمنين في الأندلس أشد الفتن كفتنة من ذكروا في سورة البروج حيث قتل ثلهم ، وهاجر ثلث آخر ، ونصّر الثلث الأخير، فثبت منهم على دينه من قتل ومن هاجر ، ومن ظل على دينه يخفيه ، ولم يثبت منهم من تنصّر .

وجاءت فتن الصليبيين للمؤمنين في العصر الحديث من غزو بلادهم واحتلالها واضطهادهم فيها ونهب خيراتها ، وذلك لصرفهم عن دينهم . وكانت فتن الصليبيين سببا في فتنة الصهاينة للمؤمنين في أرض فلسطين ، وهي من أشد الفتن التي مازال المؤمنون في فلسطين يعانون منها ، وقد ثبتوا على إيمانهم كما ثبت الذين من قبلهم ، ولم تنل منهم فتنة اليهود وأعوانهم الصليبيين .

وفضلا عن فتن الاحتلال والقهر يمارس الصليبيون أشكالا أخرى مختلفة من فتنة المؤمنين لصرفهم عن دينهم . ومن نماذج هذه الفتن محاربة الإسلام عن طريق الطعن وتشكيك أتباعه فيه ، ودعوتهم إلى الانصراف عنه إلى العلمانية .

وإذا كان إبليس وقبيله يخططون لفتنة المؤمنين قصد صرفهم عن دينهم ، فإن العلمانيين ممارسة والصليبيين اعتقادا قد أوكلوا إلى المستلبين من المحسوبين على الإسلام مهمة فتنة المؤمنين ، فظهرت فئة هؤلاء الطوابير الخامسة المستأجرة والمدسوسة بين المؤمنين في بلاد الإسلام  تبذل ما في وسعها من جهد لفتنهم من خلال التشكيك في صلاحية الإسلام لهذا العصر ، والدعوة إلى الانصراف عنه إلى العلمانية والحداثة ، ومسايرة الغرب في قوانينه الوضعية والتخلي عن شرع الله عز وجل .

ويتعرض المؤمنون يوميا لفتن العلمانيين الأسياد منهم في الغرب ، والأذناب في بلاد الإسلام ، ولا يمضي يوم إلا وكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يتعارضان للنقد والتجريح والاتهام خصوصا في عصر يشهد تطور التواصل عبر الشبكة العنكبوتية التي مكنت من غزو كل بيت من بيوت المؤمنين ،وقد استغلها العلمانيون داخل وخارج بلاد الإسلام  لفتنة أهله قصد صرفهم عنه إلى علمانيتهم مع التركيز على أغرارهم بالدرجة الأولى للحيلولة دون معرفتهم بدينهم ، وتصويره لهم تصويرا ينفرهم منه تنفيرا .

وهكذا أخذت فتن المؤمنين اليوم أشكالا من التجاسر على شرع الله عز وجل كتابا وسنة ، وعلت أصوات الفتّانين من العلمانيين لاستبدال ما شرع بآيات الذكر الحكيم المحكمة من قبيل المطالبة بتغيير  نصيب المرأة المسلمة في الميراث بذريعة أنها صارت شريكة الرجل في القوامة بخروجها إلى العمل . ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل ازدادت وتيرة فتنة  العلمانيين للمؤمنين  بمطالبتهم رفع التجريم والتحريم عما حرم الله عز وجل من فواحش الزنا وعمل قوم لوط وجرائم إجهاض ما ينتج عن السفاح . ومن المنتظر أن تتسع دائرة هذه الفتن لتشمل  الدعوة إلى تعطيل كل ما شرع الله عز وجل ، وقد بدأ استهداف عبادة الصيام بالدعوة إلى رفع المنع عن الإفطار العلني ، ومن المتوقع أن يطال هذا الاستهداف باقي العبادات ، وكل المعاملات لنقل المؤمنين من عز الإسلام إلى ذل العلمانية ، وهي كفر بواح يموه عنه بشعارات كاذبة يكذبها الواقع المعيش في أوكار العلمانية كما هو الشأن بالنسبة لفرنسا التي تزعم أنها تضمن حرية الجميع، والحقيقة أنها تضيق الخناق على المؤمنات وتحرمهن من حقهن في ارتداء لباسهن الشرعي الذي ألبسهن الخالق سبحانه وتعالى تنصيصا في محكم التنزيل ، وهي فتنة تستهدفهن لصرفهن عن دينهن بدءا بلباسهن وانتهاء إلى غير ذلك مما تعبدهن به الله عز وجل .

ولقد توعد الله عز وجل الذين يفتنون المؤمنين بشديد الوعيد فقال في محكم التنزيل : (( إن الذين فتنوا المؤمنين ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق )) . وليس أمام الطوابير الخامسة العلمانية  عندنا والتي يسخرها الغرب العلماني سوى فرصة التوبة بالإقلاع عن فتنة المؤمنين ، وهي فرصة أعطاها الله عز وجل  قبل فوات الأوان وحلول العذاب .

وأخيرا نقول للمؤمنين والمؤمنات، اثبتوا على دينكم أمام ما يواجهكم من فتن العلمانيين ، وإن فتنتكم على خطورتها لا تبلغ ما بلغته ما فتن به من كان قبلكم من عباد الله المؤمنين .

وسوم: العدد 854