مبدأ إيثار الحرية على السلطة
مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات
"الحرية هي غاية التشريع"، هذه المقولة تختصر الكثير فالأصل بالإنسان حرية الاختيار، والعلة لأن الله تعالى خلق الإنسان ووهبه الحرية فلا يستطيع أحد مهما كانت المسوغات التي يسوقها سلبها منه، فهي رابطة بين إرادة الشيء أو التصرف أو العمل وإمكانيات الإنسان لا أن تفسر على أنها هبة أو منحة أو منة من الحاكم للشعب أو للمواطن.
لهذا ينبغي للحكومة ان تمكن المواطنين من التمتع بحرياتهم لتكتمل فصول هذه الرابطة، فليس المطلوب منها فقط إتاحة الحريات العامة وعدم التعرض لمن يمارسها أياً كان شكلها بل المطلوب هو التمكين بتوفير كل مستلزمات الحريات العامة والخاصة وفتح الباب واسعاً أمام الفرد والمجتمع حيالها بدون أي قيود، وبخلاف ذلك ستقوم مسؤولية السلطة الحاكمة قانونياً وأخلاقياً، إذ ليس من المستحسن الادعاء ان مقتضيات المصلحة العامة أو ضرورة الحفاظ على الدولة ومؤسساتها تتطلب كبت الحريات أو التضييق عليها فهذه السلوكيات ولاشك ستكون بعيدة عن المشروعية والشرعية وتتعرى أمام الرأي العام ليظهر منظرها المخزي بأجلى صوره المتمثلة بالتوحش إزاء الفرد الأعزل.
فالإنسان العراقي يملك بحكم إنسانيته حقوقاً وحريات طبيعية سابقة على الدولة وتسمو فوق كل اعتبار والمساس بها لا يعني العدوان على النص الدستوري أو القانوني الذي ضمنها فحسب، بل تعني العدوان على الذات الإنسانية المقدسة عند الله تعالى والناس جميعاً، وهي قبل أن تكون قدرة على إتيان الأشياء والأعمال كما نقول هي سلطة على الذات في إتيان العمل من عدمه وفي اختيار التوقيت والمكان كحرية التظاهر والاجتماع والتعبير والتملك والسفر وغيرها أمثلة حية على ما تقدم.
إن الحرية بحقيقتها سلطة تقديرية على الذات وعلى والتأثير على الأوضاع بالقيام بالأعمال التي من شأنها التأثير على البناء القانوني المتمثل بالسلطات العامة وتصرفاتها المتعلقة ببناء وغدارة الدولة، بل هي تضع الإنسان (المواطن) في مركز قانوني متميز إزاء السلطات العامة والآخرين أي بمركز المواطن الفاعل والمؤثر في الأوضاع العامة المشارك مع ممثليه في السلطات العامة في بناء السياسات العامة والتصدي للمخاطر التي تتهدد ذات الفرد وجسد المجتمع كآفة الفساد مثلاً.
من جانبه نظم المشرع الدستوري في العراق الحريات العامة والخاصة على حد سواء في نصوص تضمنها الباب الثاني المعنون بالحقوق والحريات، وفي هذا الخصوص تطرح تساؤلات مهمة مقتضاها، هل التنظيم الدستوري كافي؟ وهل نحتاج إلى القانون لاستكمال التنظيم؟ وما الفرق بين التنظيم دستوريا، وقانونياً؟
للإجابة نقول القانون بمعناه العام قاعدة سلوك اجتماعي عامة مجردة أي أنه يترفع عن التفصيلات وذكر الأمثلة، ولذا يحيل الدستور إلى القانون مسألة التنظيم وهو بدوره لا يتضمن الجزئيات الدقيقة فيعود الأمر للسلطة التنفيذية لتشرع الأنظمة والتعليمات التي تبين الجزئيات الدقيقة وسبل التنفيذ وتوفير الضمانات الحقيقية للأفراد، بيد أن الفرق بين التنظيم دستورياً وقانونياً هو:
حين يضع الدستور الضمانة لحماية الحق أو الحرية فلا يمكن لأي سلطة التدخل والانتقاص منها، لكونها وردت في سيد القوانين الذي لا يمكن ان تمتد إليه يد العبث الحكومي أو التشريعي بحال من الأحوال فتعديله يحتاج إجراءات معينة عصية على الحكام ولابد من الركون لإرادة الجماهير لتقول كلمتها في قبول أو رفض التعديل، بيد ان الإحالة إلى القانون تجعل من الحق أو الحرية تحت رحمة المشرع الذي يملك الانتقاص منها وتقييدها تحت ذرائع شتى، أو يقوم بتخويل الحكومة ذلك وفي هذه الحالة الخطر كل الخطر حين يحال التنظيم للسلطة التنفيذية فحينها لا يكون بينها وبين التعسف بالسلطة إلا ضميرها المهني، إن كانت تملك منه شيء؟
وهذا للأسف ما وقع به دستور جمهورية العراق لعام 2005 بالمادة 46 حين نص على أن ((لا يكون تقييد ممارسة أي من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور أو تحديدها إلا بقانون أو بناءً عليه، على أن لا يمس التحديد أو التقييد جوهر الحق أو الحرية)، وللأسف إن السلطة التنفيذية تعسفت بالسلطة بل تمردت على الشعب وممثلوه وباتت أداة قتل وتنكيل بالأبرياء وقطعت أوصال الوطن وأنهت خدمات الانترنيت خشية فضح جزء يسير من أعمال التنكيل المتعمد بالمحتجين على تراكمات فشل الحكومات العراقية السابقة والحالية، فيالها من ديمقراطية على الطريقة العراقية؟
مع التذكير إن اللوم كل اللوم يقع على ممثلي الشعب في البرلمان ممن خان الأمانة التي أودعت لديه لتمثيل مصالح الشعب والدفاع عنها بطريق أداء العمل وتشريع القوانين والرقابة على السلطات التنفيذية عند ممارسة عملها والوقوف بوجهها عندما تحيد عن الحق وجادة القانون لتركب العنف ضد السلطة التأسيسية للحكم في العراق (أي الشعب، والذي عبرت عنه المادة الخامسة من الدستور بأنه مصدر السلطة وشرعيتها)، فقد فشل ممثلو الشعب في تمثيله مرتان، مرة حين تخاذلوا في نصرة الشعب ومطالبه الحقة ووقفوا موقف المتفرج على جراحات الشعب، ومرة حين تنصلوا في وضع قانون للتظاهر والتعبير عن الرأي وفق ما أمرت به المادة (38) من الدستور يتضمن حماية حقيقية للشعب في مواجهة توحش السلطة واستبدادها وتعسفها.
من هذا الواقع المرير حق لنا التساؤل متى يتم إيثار الحرية على ما سواها؟
نجيب عما تقدم بالقول إن النصوص القانونية يجب أن تصاغ بشكل يغلب إيثار الحرية أو الحق على أي شيء أخر، فالأصل هو الحرية والاستثناء هو التنظيم أو التقييد، وان لا يوضع على الحرية من القيود إلا بالقدر اللازم لضبط ممارستها للتوفيق بين الحريات الفردية ومنع استغلال الفرصة للعدوان على الآخرين من المواطنين.
بعبارة أخرى ان القيود التي توضع بمناسبة التنظيم ينبغي ان تطال السلطة العامة لا أن تنصرف للمواطن فمن يميل إلى الاستبداد هو من يملك مقالد الحكم والقوة والنفوذ لا الفرد الباحث عن الكرامة وعن المصالح الشعبية العامة، ويمكننا ان نشير إلى بعض تلك القيود التي ينبغي تضمينها في القانون لتحد من استبداد السلطة الإدارية وهي:
1- التناسب: بين مقتضيات الحرية الفردية والحريات الاجتماعية الأخرى ومن المغالطة القول ان التناسب يكون بين مقتضيات الحرية الفردية والمصلحة العامة خشية استغلال ذلك من قبل الطبقة الحاكمة ممن تمترس بالمصلحة العامة ليقصي الفرد ويقمع حرياته.
2- الأولوية: فعندما يتخيل البعض ان هنالك نوع من الصراع بين السلطة والحرية فينبغي الميل إلى الحرية والانحياز لجانب الشعب، والأولوية تكون للحرية وما تقتضيه من توفير أجواء آمنة لممارستها، لا ان يكون الميل نحو السلطة وما تريد من واسع الاعتراف لها بالاختصاصات لتتوصل من خلالها للتقييد الذي تبتغيه، وما التخويل للسلطة العامة ممثلة بالتنفيذية والتشريعية بالتنظيم إلا لأنهما تغصان بالموظفين والممثلين عن الشعب ومهمتهم السهر على مصلحة الأخير لا تقييد إرادته أو حرفها عن مسارها المنطقي والدستوري، فان تحولتا من أداة تنظيم إلى أداة تجبر وقهر فحق ان يحلا ويجري الاستغناء عنهما ويساق أعضائهما إلى المساءلة القضائية.
3- المشروعية: فحين تقوم السلطات العامة بعملها ينبغي أن تتكئ على مسند المشروعية في أداء عملها، فالسلطة وسيلة لتحقيق غاية منتهاها سعادة الفرد ولا يتحقق ما تقدم ما لم تكن السلطة مشروعة ويتحقق ذلك بـ
أ- إقامة السلطات العامة على أساس من إرادة المواطنين على أن تكون الإرادة حرة ومختارة بشكل حقيقي.
ب- الخضوع الفعلي والحقيقي للقانون من قبل السلطات العامة في عملها وفي علاقتها بالمواطن.
ت- الإيمان الحقيقي من قبل القابضين على السلطة ان ما يملكون من قوة مادية ممثلة بالقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي أداة لحماية الشعب لا مسند السلطة، فهي ليست قوة الحاكم بل ضرورة إجتماعية لحفظ المصالح الأعلى والأولى وهي مصالح الشعب فحسب.
4- نسبية السلطة: فالسلطة ذات قيمة نسبية تتعالى في درجات سلم القانونية بناءً على رضا المواطن عنها وتتهاوى في الحضيض حين تفقد رضا وثقة المواطن بها وتتحول إلى سلطة فعلية غير شرعية حقيقة بالعقاب.
وما تقدم مصداق لقولنا إن السيادة للشعب وما الحاكم إلا ممثل عن الإرادة الشعبية فان انحرف عنها كان للشعب ان يعزله ويسحب التفويض منه وهو تماماً ما جرى في العراق، نعم لم يحدد الدستور وسيلة شعبية تسقط الحكومة وتسحب الثقة من نواب البرلمان بيد إن الثورة في الشارع ضد الوضع بكاملة لا تعني إلا أمراً واحدا (إن هؤلاء لا يمثلون سوى أنفسهم وعليهم الاستقالة فوراً) لكونهم فشلوا في تمثيل إرادة الشعب والشعب يسترد منهم إرادته.
أضف لما تقدم إن الحرية ومقتضياتها هي الأساس وهي التي تغلب على السلطة ومقتضياتها فحين يطل علينا أحدهم ويقول نحن أمام خيار الدولة أو اللادولة، فهل الدولة تعني القمع وتكميم الأفواه؟ وهل الدولة تعني القتل والتنكيل؟ وهل الدولة تعني التغطية على الجرائم بمصادرة حرية الرأي والتعبير والاتصال والتواصل؟ وقمع أدوات الإعلام المحايد ليغض النظر عما يراه ويسمعه فلا ينقل ذلك إلى الرأي العام الوطني والعالمي.
ومما لا شك فيه إن التنظيم للمظاهرات الشعبية العفوية ينبغي أن يكون من أجهزة الدولة وسلطاتها الأمنية التي من المفترض أنها يد الشعب الضاربة بوجه المعتدي، لا بوجه الشعب المظلوم، فكان الأولى الانحياز يكون للشعب ولقضاياه الحقة، وان يتاح للفرد ممارسة حريته بكل أريحية، كما إن مقتضى المنطق أن القيادات الإدارية والتشريعية في البلد أن تعلن وعلى رؤوس الأشهاد أسماء القادة أو الآمرين أو الجماعات الخارجة عن القانون ممن وقف بالضد من تحقيق آمال جماهير الشعب ممن كانوا يصبون جام حقدهم على الشباب الحر المطالب بالحرية والتخلص من براثن الفساد والنهوض بالمؤسسات العامة والعودة بها إلى سابق عهدها وغاية ابتداعها إلا وهي خدمة المواطن، فمارسوا القتل والتنكيل فالقتلة المجهولين عندنا معلومين عندهم، لا أن يصار إلى التسويف وتشكيل لجان تحقيقية تفتقد للمهنية والحيادية بل المفترض أن نستعيد ثقة الجماهير بأن نكل للقضاء العراقي مهمة التحقيق الشفاف والقانوني بلا أي منغصات من شأنها إخفاء الحقيقة وأن تعلن بعد الانتهاء نتائج التحقيق للشعب.
وبما أننا بمعرض تقييم حالة الفراغ الدستوري لتنظيم حرية التعبير عن الرأي بالتظاهر والعصيان نقول:
كان الأولى بالمشرع التصدي ومنذ الأيام الأولى لصدور الدستور العراقي العام 2005 لتنظيم حرية التظاهر بإصدار قانون على أن يخلو من أي قيود تسلب جوهر الحرية وتحيلها إلى مسرحية حكومية تتحكم بها الأحزاب والكتل لتحرفها عن مسارها وتحتويها لتعبر بها عن رغباتها وتستقوي بها لتفاوض الخصوم وتتحصل على الحصص السياسية والمنافع الحزبية، ولنا أن نذكر ان المشرع العراقي والسلطات الإدارية لا تملك أي سلطة تقديرية إزاء تنظيم الحق بالتظاهر بما أن المادة (38) من الدستور أباحت حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل وألزمت الدولة بكفالة هذه الحرية ما عدا حالة تعارضها مع النظام العام والآداب وهو القيد الوحيد على الحرية والنظام العام يعني مجموع المصالح المعتبرة لأفراد الشعب والآداب مجموعة من القيم المعنوية التي توارثتها الأجيال وتشكل عنصر تجتمع عنده مختلف الأفراد بمختلف منطلقاتهم الفكرية والثقافية.
ولا نجد ما يتعارض من المظاهرات مع ما تقدم، وعلى الحكومة أن تعي ان التدخل والحد من الحرية لا يكون إلا في سبيل حماية الحريات الأخرى ان تعارضت، لا ان يتم التدخل تحت شعار فضفاض أسمه الدولة أو المصلحة العامة لكونهما مدعاة للتعسف والانحراف.
فعلى الجميع ان يعلموا ان الفرد هو الغاية والدولة ما هي إلا وسيلة لتسعد الفرد أو يتم استبدال من يديرونها لكونهم فشلوا في أداء مهمتهم وواجباتهم.
وسوم: العدد 860