في البيئة الشعرية ...
الشعر ... كسائر الفنون الأدبية الأخرى تَحَدَّثَ عنه أهلُ الاختصاص ، وأفاضوا في تعريفه ، وتعداد أسمائه ، وهل هو موهبة أم صناعة ، مبيِّنن مكانته وأهميته ، معددين عصوره من العصر الجاهلي إلى عصرنا هذا ، وما طرأ على مسيرة الشعر في كل عصر ، فليس من حاجة إلى تكرار ونسخ ماقيل في هذه الميادين، فالمراجع كثيرة وميسرة ، وحسبنا أن نضع بين يَدَيْ كتابنا ( مدرج الكتابة ) ماله علاقة مع الكتابة ومهاراتها ، ومنها الشعر ، فالشعر موهبة تزيده الصناعة صقلا وتهذيبا وتألقًا ، ويصعب على مَن لم يُعطَ الموهبة أن يلج بحور الشعر ، وصدق مَن قال :
ويؤكد هذه الحقيقة واضع علم العروض الخليل بن أحمد الفراهيدي ، فقد سُئل عن عدم قوله للشعر فقال : ( مايأتيني منه لاأرضاه ، وما أرضاه لايأتيني ) أي أنه ليس بصاحب موهبة شعرية ، ولكنه يستطيع أن ينظم أو يصنع شعرا ، ولكنه لن يكون كشعر شاعر مطبوع موهوب ، وهو لايرضى إلا الشعر المشهود لصاحبه بالموهبة . والشعر يترجم مايعانيه الشاعر من مكابدته لشأن من شؤون الحياة، وبه يحلق في عوالم الفكر والخيال ، ويأنس في ظلال المعاني ، ويشعر بالظمأ الدائم إلى آفاق أبعد وأعمق ... وصدق الشاعر محمد منلا غزيل يرحمه الله حيث قال : :
ويظلُّ للمجهول في قلبي حنينٌ مبهمُ
يقتاتُ منــه غذاءَه قلبٌ حزينٌ ملهمُ
ولارتباط الشاعر الموهوب الصادق ذي الهمِّ ... بهذا الزخم من الخيالات والأفكار والصور والمعاني والغربة التي تلف الشاعر بعباءتها الموحية المرهفة ، فَتُؤْثِره بالقوافي العذبة ، وتوثِّق بيديه القيم الإنسانية والاجتماعية والدعوية الكريمة ... في إبداع امتاز بالأصالة وصدق العاطفة وطهارة الوجدان ، لتقديم المضامين الشعرية الرائدة محليا أو عالميا ، حين يرتفع الشاعر بقيمه إلى الأفق الأعلى من حدود اصطنعها الناس ، لتكون نظرته للإنسان وللحياة إيجابية ، فوق كل النزعات القاصرة والضيقة .
وإلى شبابنا الذي احتضنتْه مراحل طلب العلم الأولى في مدارسها ، وضمَّته الجامعاتُ بعد أن اشتدَّ عزمه ، وتفتَّح فكرُه ... وشبابه وحيويته وآماله جديرة بها ،وهو يحاول قول الشعر فنقول له : انهل من الينابيع العذبة المتدفقة بالمُثل والقيم ، وأضئ قلبَك وفكرك من إشراقاتها العلمية ، وغذِّ نفسَك من موائدِها اللذيذة ، واحفظ أوقاتك ـ فهي عمرُك ـ فلا يراك أحدٌ إلا قارئا أو كاتبا ، وفي كلا الحالين تحظى بالمثوبة من الله عزَّ وجلَّ ، فطريق أهل العلم الدَّأبُ والصَّبرُ في طلبه ، فالخسارة ستكون فادحة إذا ودَّعتَ مراحل التعليم وأنت لستَ بقارئ ولا كاتب ، ويومها لاينفع الندم .ومن هذا الباب الخاص تدخل بوابة الشعر ونسأل الله لك التوفيق والسداد
ونعود إلى مابدأنا به فنقول : ما أروع أن يوظف الشعر توظيفا يخدم قضايا الأمة ، ويعبر عن عاطفة وحس الشاعر، ناصرا للحق والخير ، نابذا للكذب والافتراء ، شغوفا بأمجاد الأمة ، وأيام عزتها ، لنأخذ منها العبرة ، نابعا من قلب صادق ، كما قال شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت رضي الله عنه :
والشعر من هذا المنطلق يتغلغل إلى أعماق النفس، بما فيه من المعاني والمشاعر ، وقد شجَّع الإسلام الشعراء الذين اتخذوا شعرهم سلاحا من أسلحة الخير ، والدفاع عن الحق لِما في الشعر من قيمة وقوة في التأثير، لأنه يحمل القيم الفاضلة ، وقد شجَّع النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من الشعر واستمع إِليه ، و قال : ( إِن من البيان لسحرًا ، و إِن من الشعر لحكمة )، و لما استأذن حسان بن ثابت - رضي الله عنه - في الرد على المشركين أذن له و قال : (اُهْجُهُمْ وروحُ القُدُسِ معك ( ، واقتفى الأصحاب الكرام رضي الله عنهم أجمعين أثر نبيِّهم صلى الله عليه وسلم وكانت سيرتهم تبعا لِما أمر به أو نهى عنه ، فتحرَّوا ما نفع من الشعر أو حَسُن فقبلوه، و ما كان فيه فساد أو ضلال أو ضرر نبذوه بل حاسبوا عليه قائليه .
(والشعر في صدر الإِسلام كان امتدادًا للشعر الجاهلي ؛ لأن شعراء هذا العصر هم أنفسهم شعراء العصر الجاهلي ، و لهذا فقد كانوا يُسمًّون بالمخضرمين . والذي اختلف إنما هو انتقال هؤلاء الشعراء من الحالة الجاهلية حيثُ المعاني التي نفاها الإِسلام فلم تَعُدْ صالحة للبقاء ، كالشعر الذي يدعو للعصبية ، والغزل الفاحش ، و الهجاء المقذع ، و المدح الكاذب ، و وصف الخمر ، أما المعاني التي لم يَنْفِها الإِسلام فقد بقيت متداولة لدى الشعراء ، مع تغيُّر القِيَم التي يعتمدون عليها في تلك المعاني ، فإِذا كانت قيم المدح في الجاهلية هي الشجاعة و الكرم و الجود فإِنها في الإِسلام تعني التمسك بالدين و التحلِّي بحسن الخلق و الورع و الزهد ، و إِذا كانت قيم الجاهلية هي الفخر بالأحساب و القبلية فإِنها في الإِسلام تعني الانتساب للإِسلام و اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، و هكذا في بقية الأغراض ، إِلا أن هذا لا يمنع أن يجمع الشاعر بين القيم القديمةالتي تعدُّ قيما إنسانية توافق القيم الجديدة التي جاء بها الإِسلام ) .
وتختلف أساليب الشعر في هذا العصر ، ويبقى الشعر الرصين الهادف إيجابيا، من خلال تأثره بالإسلام الذي يدعو إلى الحق والخير والأخوة ، فالشاعر الإِسلامي يختار الألفاظ النابعة من قلبه المؤمن ، ومن سريرته الصافية ، لِيؤدي المعنى الذي يُثابُ عليه عند الله . و أما المعاني فيختار منها ما يخدم الإِسلام و يدعو إِليه ، فلا قيمة لشعر تعلَّق بدعوى العصبية ، أو اتخذ من الكذب والنفاق سبيلا لنيل مكانة أو إحراز جائزة . وما منع الإسلام الشعر الذي قيل في الجاهلية وهو يدعو إلى الشجاعة و الكرم والمروءة ، بل إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم امتدح بعض الشعراء الذي جرت على ألسنتهم قيم الحق والتوحيد .
قيمة الشعر تبقى مرتبطة بأهمية المواضيع التي يتناولها ، وفي دفاعه عن ثوابت الأمة التي تعتز بها ، وتعيش من أجلها . ومنها اللغة العربية المجيدة التي أُنزل القرآن الكريم بها ، ولقد انبرى الكثير من الكتاب والشعراء يدافعون عن لغتهم الفصيحة ، ويبينون قيمتها وأثرها الكبير في جمع الأمة على مايوحدها ، ويزيد من ثقافتها ومعارفها ، ويربط ماضيها وتراثها الخالد بحاضرها وبمستقبلها ، وأُثبت هنا قصيدة قلتُها في هذا المجال ، بعنوان :
(( إنَّا أنزلناه قرآنا عربيًّا ))
شريف قاسم
وسوم: العدد 861