هانا لوسيندا سميث في “صعود اردوغان”: أمريكا والغرب يخشيان تركيا وتقلقهما مناورات اردوغان

من أصعب الأمور هذه الأيام العثور على كتاب يتناول قضايا الشرق الأوسط الحساسة ويعرضها بموضوعية أو حتى ما يقرب منها ويتجنب الانحياز. فكيف والأمر يتعلق بموضوع علاقة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بالقضية السورية في السنوات العشر الأخيرة كالكتاب الذي سنراجعه في هذا المقال؟

كما أن بعض الكتاب الغربيين الذين تعلموا وتدربوا على الكتابة والتحليل الفكري والصحافي في أفضل مؤسسات وجامعات بلدانهم ربما نسوا أن يقرأوا بتمعن ما كتبه المفكر ماكس فيبر في القرن الماضي عن أهمية الموضوعية في التحليل السياسي والاقتصادي والاجتماعي لشؤون العالم وقضاياه الأساسية.

 clip_image001_4e7a0.jpg

كتابها بعنوان: “صعود اردوغان، معركته في استقطاب روح تركيا” يبدو في البداية وكأن الصحافية والكاتبة البريطانية هانا لوسيندا سميث، التي عملت كمنتجة برامج في التلفزيون الإنكليزي، وتكتب حالياً في صحيفة “التايمز” البريطانية، ستتحدث عن إنجازات اردوغان بموضوعية خصوصاً وأنها عاشت السنوات الست الماضية في تركيا وشمال سوريا وأُعطيت الضوء الأخضر للتنقل في المناطق الشديدة السخونة هناك. كما أتيح لها حضور مؤتمرات صحافية وإجراء مقابلات مع مسؤولين أتراك كبار بالإضافة للاستماع إلى معاناة السكان والمقاتلين والمجموعات المحاصرة والمضطرة إلى الهجرة الجماعية والفردية بين سوريا وتركيا، ولكنها لم تكن موضوعية في تغطيتها.

لعل من سلبيات كتابها وخصوصا الفصول المتعلقة بالعلاقة التركية ـ السورية أنه ركز في بعض أقسامه على المساوئ التي ارتكبتها الجهة التركية، وعلى تجاوزات المجموعات التي نشطت تحت مظلتها هناك فقط، مع أن الكتاب عموماً وفي قراءة معمقة خلف سطوره يوضح بعض الحقائق الهامة عن أخطاء جميع الجهات.

وتسأل سميث نفسها في المقدمة قائلة: “منذ تموز (يوليو) 2016 تحدثت في مقالاتي عن قمع اردوغان لخصومه، وعن الانتخابات الملتوية المنحازة التي نظمها لتحقيق انتصاراته السياسية وحروبه”.

وتطرح الأسئلة حولها قائلة: “لماذا لا تقاطع الدول الغربية اردوغان وتجعله منبوذاً وتفسح المجال لتركيا ولأكثرية شعبها الذهاب في الطريق التي يريدانها؟”.

جوابها، ان الغرب يتجنب ذلك لأن مصير اردوغان مهم وبسبب موقع تركيا الجغرافي بين الشرق والغرب وكونها على تواصل جغرافي وإنساني وسياسي مع أوروبا، والشرق الأوسط، وروسيا. يضاف إليها أن تركيا تستقبل حالياً نسبة ضخمة جدا من المهاجرين المعارضين لأنظمة بلدانهم من سوريا والعراق وأفغانستان ودول أخرى، هذا بالإضافة إلى ضخامة اقتصادها واستمرار انتمائها إلى “حلف شمالي الأطلسي” (الناتو) وفعالية وقدرات جيشها، وانتفاضاتها في الفترة الأخيرة على النظام الروسي بقيادة فلاديمير بوتين.

فإذا أدار اردوغان ظهره للدول الغربية بشكل كامل، قد يتدفق الملايين من الذين اختاروا اللجوء في تركيا نحو دول أوروبا وأمريكا وحلفائهما. واردوغان يدرك أهمية الدور الذي يلعبه في هذا المجال الحساس. وهو قائد شعبوي يحسن استخدام “الكاريزما” الشخصية والقيم الأخلاقية والدينية الإسلامية التي تؤثر في شعبه.

وتؤكد الكاتبة أن على قيادات أوروبا وأمريكا إدراك أهمية هذا الواق هذه المواقف إيجاباً على شعبيته في تركيا.

وتعتبر المؤلفة أن محاولات كثيرة نُفذت لإضعاف “حزب العدالة والتنمية” الذي يقوده اردوغان. وكان آخرها دعم الانقسامات داخله، وقبل ذلك دعم حركة انقلابية قادها حليفه السابق فتح الله غولن عام 2016 ولكنها فشلت، لأن (كما يبدو لها) الشعب التركي عموما يفضل خيارات اردوغان على الخيارات الأخرى كالاعتماد على سلطة الجيش الباطشة أو على علمانية مصطفى كمال أتاتورك وتابعيه من الأحزاب التركية المعارضة التي ما زالت مرتبطة بمبادئه وقيمه، وما زالت قوية في تركيا وخصوصاً في المدن التركية الكبرى كاسطنبول وأنقرة وأزمير.

الكاتبة تعتقد أن اردوغان يستخدم أمرين أساسيين هما: الإسلام السياسي المعتدل المتمثل في حركات إسلامية نشطت في سائر أنحاء العالم والعالم العربي، من جهة، والدور الذي لعبته الإمبراطورية العثمانية في إدارتها لشؤون منطقة الشرق الأوسط قبل وخلال الحربين العالميتين والتي خسرتها للاستعمار البريطاني والفرنسي، من جهة أخرى. وتشير في أكثر من مناسبة في الكتاب إلى استثمار اردوغان لهذين العاملين وإلى تقاربه مع حركة “الإخوان المسلمين” في المنطقة.

وتقول إن تركيا تنتقل تدريجياً من الديمقراطية إلى حكم الحاكم الواحد (اردوغان رئيساً حتى 2023) وقد أصبح من الصعب التفرقة بين اردوغان والدولة. وتضيف انه كلما تصور المراقبون أن اردوغان انتهى فانه يصعد مجدداً إلى الساحة بقوة أكبر، إما مستخدما ايمانه بالمبادئ الإسلامية التقليدية أو عبر “شيطنة الأعداء” كالمنظمات العسكرية الكردية والقيادات الخليجية العربية غير الملتزمة بالدفاع عن القضية الفلسطينية ولا بشجب تجاوزات إسرائيل واستمرارها في إنشاء المستوطنات غير الشرعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة مع أن النظام التركي (حسب قولها) قبل وخلال قيادة “حزب العدالة والتنمية” تعامل مع إسرائيل أمنياً، خصوصا في فترات كان فتح الله غولن ما زال حليفاً للحزب الحاكم والنظام، وقبل ان يعتبره اردوغان عدواً ساهم في محاولة إطاحته من الحكم بالتعاون مع إسرائيل وأمريكا في الانقلاب الفاشل عام 2016.

تقول الكاتبة إنها شاهدت اردوغان يخاطب الجمهور في أنقرة في أيار (مايو) 2017 بعد شهر من نجاحه في الاستفتاء الدستوري الذي نقل سلطة القرار الرئيسية من البرلمان إلى رئيس الجمهورية، وتشير إلى أنه سعى وحاول خلال تلك المناسبة إبراز دوره كرئيس أوحد، وكأنه السلطان العثماني في القرون الماضية، على الرغم من أنه أبرزَ نفسه أيضاً وكأنه قائد المحرومين. وقد كان آنذاك بحاجة إلى تضخيم دور أعدائه وأعداء سلطته داخلياً وخارجياً وخصوصاً فتح الله غولن، وخصمه القائد الكردي اليساري “الثوروي” عبد الله أوجلان وإظهار نفسه (في الوقت عينه) وكأنه حليف لقائد تركيا التاريخي مصطفى كمال أتاتورك، مع أن مبادئ أتاتورك العلمانية ليست في سياق مبادئ اردوغان الإسلامية النزعة.

وتعتبر المؤلفة أن الكتاب هو نتيجة لما رأته في تركيا في السنوات التي قضتها هناك بين 2013 و2018. ولكن، بعد قراءة الفصول الأساسية، يبدو أنها كانت تدركُ مسبقا ما تود رؤيته، وأنها كغيرها من مثقفات ومثقفي جامعات الغرب ومؤسسات أوروبا العلمية والثقافية والصحافية أكثر ميلا لانتقاد استخدام اردوغان لبعض المبادئ التقليدية الشرق أوسطية والإسلامية للأغراض السياسية من أجل الوصول إلى النجاح السياسي لأن في ذلك (حسب تحليلها) الخطر على امكان قيامه بتنازلات أمام منظمات جهادية قد تستخدم الإسلام لممارسة الوحشية والمذابح والإرهاب ضد خصومها الذي يتجاوز المسموح به في القيم الإنسانية العالمية كما حدث في بعض مناطق سوريا خلال الحرب الأخيرة.

وتقول في الفصل الثاني وعنوانه: “سوريا، القصة الخلفية” إنها تفاعلت مع مقاتلين سوريين معارضين في حلب (في عام 2013) بينهم تجار سابقون، وعمال وقادة في قطاع البناء وقطاعات إنتاجية أخرى أصبحوا قادة مجموعات عسكرية وتبدلت توجهاتهم الأخلاقية والإنسانية، ولكنهم استمروا إلى حد ما في التوجه الإسلامي المستند إلى القيم. غير أنها في زيارة لاحقة لهذه المنطقة وجدت أن هؤلاء قد استُبدلوا بقيادات متصلبة تمارس سائر أنواع القمع ضد خصومها متسترة وراء تعاليم محرّفة وإرشادات دينية مجتزأة من التعاليم الأخلاقية الحقيقية الإسلامية يستخدمونها لتبرير قيامهم بوحشياتهم وجرائمهم.

تقول في هذا المجال: “الفئة الأقوى في حلب في صيف عام 2013 كانت (لواء التوحيد) بقيادة حاجي ماريا الذي كان متأثراً بتعاليم “الإخوان المسلمين” غير انه قُتل بعد ذلك وحلت مكانه مجموعات لا تؤمن بالمبادئ التي آمن بها. وتضاءل دور “حركة الإخوان المسلمين” في فترة لاحقة في شتى مناطق المعارضة السورية لحساب مجموعات متطرفة. وتؤكد أنه في عام 2013 كانت بعض حركات المعارضة المتأثرة بالإخوان، ما زالت متعاطفة مع النظام العراقي السابق بقيادة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وكان من الخطأ أن تتعاون لاحقاً مع جهات مسلحة متطرفة حلت مكانها وتجاوزت مبادئها وقتلت قياداتها.

المهم في هذا المجال، أن تركيا (حسب المؤلفة) كانت على علاقة مع جميع هذه الحركات وربما كان من المجدي ألا تسمح بعدم الانضباط في توجهاتها، وخصوصاً بعد دخول عدد كبير من الأطراف الإقليمية والدولية على الخط عبر عملائهم في سوريا.

أما الفصل الخامس، المهم جداً بالنسبة للدور التركي في سوريا، فتبدأ المؤلفة فيه قائلة إن علاقة اردوغان بالقيادة السورية كانت ممتازة وجرت لقاءات اجتماعية ودية بين القيادتين التركية والسورية قبل عام 2011 ولكن الربيع العربي وفر له فرصة لتوسيع دوره في المنطقة والعالم، بعد إقصائه وضبطه هيمنة الجيش التركي على القيادة السياسية التركية. وقد جعل هذا الأمر اردوغان أحد أكثر قادة العالم انفراداً في قراراتهم وفي تبديل توجهاتهم. وقد نجح الرئيس التركي في مساعدة المقموعين والمحرومين في بلده عبر تحسين وتطوير وضعها الاقتصادي، ولكنه استخدم القيم والتوجهات الإسلامية التقليدية لتثبيت سلطته في تركيا ولدى جيرانه. وهنا ظهر بعض الانحياز في موقف الكاتبة إذ ليس بالضرورة وجود تناقض بين هاتين السياستين.

كما ان منظارها الغربي تحليلياً ظهر أيضا عند اعتبارها ان معارضة اردوغان المشاركة لمشروع قوات التحالف الأمريكي ـ البريطاني في غزو العراق ونظامه في عام 2003 كان خطأ سياسياً هز علاقة تركيا المنتسبة إلى حلف “الناتو” بالولايات المتحدة الأمريكية، بينما كانت الأنظمة التركية السابقة تمتثل لإرادة العراب الأمريكي (ص 101). بيد أنها استدركت أن الرئيس التركي اعتبر أن دور تركيا بشكل أساسي يشمل الصداقة مع الجيران العرب، وعدم الخضوع الكلي للإملاءات الأمريكية والأوروبية وخصوصاً عدم قبول هيمنة إسرائيل على المنطقة وتنكيلها بحقوق الشعب الفلسطيني (ص 102 ـ 103). وتندرج في هذا السياق (في رأيها) علاقة اردوغان الجيدة بسوريا وقيادتها حتى عام 2011. وبالتالي عوضت الكاتبة في هذا الموقف بعض تحاليلها السابقة.

Hannah Lucindan: Smith: “For the Soul of Turkey

William Collins, London 2019

395 Pages.

وسوم: العدد 865