الضابط السوداني الذي دافع عن حدود قطاع غزة
في مثل هذا الشهر ، فبراير ، 1949 ، رُسِمت الحدود بين قطاع غزة ودولة إسرائيل في إطار ما سمي الهدنة بين هذه الدولة ومصر . وبمقتضى هذه الحدود تشكل قطاع غزة على مساحة 360 كيلو مترا مربعا . وروى لي رجل ، هو الآن في جوار الله _ جل قدره _ أنه ، وكان في عشريناته ، شاهد الفريق الذي يرسم الحدود ، شرقي بلدة دير البلح ، والمكون من ضباط مصريين وإسرائيليين ومندوبين من مراقبي الهدنة التابعين للأمم المتحدة ، فقصدهم مع بعض جيرانه . ولما رأى الجنود الإسرائيليين سأل : " هؤلاء الذين أخذوا بلادنا ؟! " مستصغرا لهم محتقرا ، فرد عليه ضابط إسرائيلي : " نعم ، هم " .
وأثناء رسم الخط ، وهذا ما اصطلح على تسميته به ، اتجه الرسم غربا ، فاحتج ضابط من الجانب المصري غاضبا ، وأصر على اتجاهه شرقا ، وتكرر احتجاجه الغاضب كلما اتجه الرسم غربا ، فسأل الرجل عنه ، فأجابه ضابط مصري بأنه ، المحتج ، ضابط سوداني .
وكانت مصر والسودان وقتئذ دولة واحدة حتى انفصالهما في يناير 1956.
. وفي شهر رسم الحدود ، فبراير 1949 ، بدأت الإدارة المصرية العسكرية لقطاع غزة حتى أنهاها احتلال إسرائيل له في أكتوبر 1956 . ودام الاحتلال أربعة أشهر وسبعة أيام منتهيا في 7 مارس 1957 . وتقرر إخضاع القطاع لإدارة دولية ، ووصلت إليه طلائع القوات الدولية ، فانتفض أهله رافضين تدويله ، وأصروا على عودة الإدارة المصرية ، وفي انتفاضهم حاول شاب إنزال علم الأمم المتحدة من على أحد المباني ورفع العلم المصري مكانه ، فقتله جندي من القوة الدولية . واستجابت الأمم المتحدة لما أراده أهل غزة ، وأعيدت الإدارة المصرية في 14 من الشهر نفسه . وصار 7 و14 مارس عيدين وطنيين لغزة . ومن عجائب القدر أنه تقرر أن يكون عام 1967 آخر عام يحتفل فيه بهما ، وجاء عدوان 5 يونيو 1967 الإسرائيلي واحتلال غزة ليشارك عمليا في قرار إنهائهما ويقطع أي إمكانية في العدول عنه . واتصالا بسيرة الضابط السوداني الشهم الغيور فإن الراحل الجليل الفريق عبد الرحمن سوار الذهب الذي أطاح بجعفر النميري ، وكان أول رئيس في تاريخ العرب يتخلى عن السلطة مختارا دون موت أو انقلاب ؛ التحق بالكلية الحربية ، مثلما قال ، ليكون جنديا في تحرير فلسطين . ومع السنين ينحدر الخط البياني للتلاحم القومي العربي بفعل أنظمة ليست لنا وإن كانت منا ، فإذا مصر الرسمية تتنكر لقطاع غزة بالبغض كله ، وتفتح ذراعيها لإسرائيل بالحب كله ، ويلتقي جعفر النميري بشارون في ثمانينات القرن الماضي ، ويسمح بهجرة يهود الفلاشا إلى إسرائيل عبر السودان برشوة 50 مليون دولار على السماح ، وتفاجأ بخديعة إسرائيل له ، فلم يكن لشيك المبلغ رصيد . ويُدفع السودان الآن إلى التطبيع المتهافت مع إسرائيل مبتدئا بلقاء رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان لنتنياهو في 3 فبراير الحالي في عنتيبي بأوغندا . وتقيم مصر هذه الأيام جدارا على حدودها مع غزة جاء في تسريب أنه بتمويل سعودي . أليس الخير في أن تقام بثمنه بيوت لأهل سيناء الفقراء الذين يعيش كثيرون منهم في أكواخ من أغصان الشجر والحطب ؟! يا عبرة الدهر جاوزت المدى فينا ! ما بالنا أضحينا رمادا مبتلا ؟! وعلى ظلمة الحال واكتئابها ، لا نستريب لثانية أن هذه الظلمة وهذا الاكتئاب القومي عابران ، وأن روح أمتنا الواحدة حية تتوهج تحت الرماد ، وستفاجىء بانفجارها القاهر الظافر أعداء الخارج وأنذال الداخل أتباعهم ، وأن المطبعين الحالمين بأن تجلب لهم إسرائيل الأمن والازدهار لا يختلفون في شي عن الحالم بهدية عسل من الدب .
وسوم: العدد 865