نعمة الأمل من أجلّ نعم الله عز وجل ينعم بها الإنسان ويقابل شكرها بنكران أو نسيان
من المعلوم أن نعم الله عز وجل على الإنسان لا يحصيها عد بدءا بنعمة الخلق، ومرورا بنعمة البعث بعد الموت ، وانتهاء بنعمة الخلد في دار البقاء بعد الرحيل عن دار الفناء ، وبين هذه النعم الثلاث الكبرى توجد نعم كثيرة تحيط بالإنسان في كل وقت وحين ، و لكنه لا يلقي إليها بالا وهو ينعم بها إما ناسيا أو جاحدا ومنكرا .
ونعم الله عز وجل منها ما هو مادي ، ومنها ما هو معنوي ، وهذه الأخيرة هي الأكثر عرضة للنسيان أو النكران عند الإنسان لأن مستعصية على العيان.
وسنتطرق في هذا المقال إلى نعمة " الأمل " ،وهي من النعم المعنوية التي تحفنا بها عناية الله عز وجل ورعايته في كل وقت وحين ، ولكننا لا نقدرها حق قدرها ونحن ننعم بها.
وتطلق كلمة أمل على الرجاء القوي ، والتفاؤل الشديد ، ويكثر استعملها للدلالة على ما يستبعد الإنسان حصوله وهو المخلوق العجول . ومع استبعاد حصول الأمل لا مندوحة للإنسان عنه ، ولا يستطيع أن يحيى بدونه .
وتتجلى نعمة الأمل في تشبث الإنسان بالحياة بالرغم من قسوتها وما يعانيه فيها من حرمان ، فلولها لما تشبث بها ، ولهذا يضع بعض الناس حدا لحياتهم بالانتحار عندما يفقدون هذه النعمة .
وفي رسالة القرآن الكريم الخاتمة والمنزلة على الناس أجمعين، ورد ذكر نعمة الأمل في آيات متعددة لا بأس من الوقوف عند بعضها كقوله تعالى :
(( إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا )) ، فهذه الآية كما قال المفسرون وعد ناجز من الله عز وجل الذي لا يخلف وعدا . والوعد في حقيقة أمره أمل يؤمّل . والأمل هو ما يجعل الإنسان يترقب اليسر بعد كل عسر . والعسر تنضوي تحته كل شدة مهما كان نوعها ، واليسر تنضوي تحته كل سعة مهما كان نوعها. ويستطيع الإنسان أن يضع قائمة بأسماء أنواع العسر تقابلها قائمة بأسماء أنواع اليسر ، قد تضمن قول الله تعالى في هذه الآية الإشارة إلى القائمتين معا ، وعلى كل ما فيهما من متقابلات الشدة والسعة يسري حكمها .
والمفهوم من هذه الآية أن الله عز وجل أنعم على الإنسان بنعمة الأمل حين أخذ على ذاته المقدسة وعدا بأن يجعل عقب كل عسر يسرا .
ولقد وقف المفسرون وعلماء العربية في صيغة التكراربهذه الآية الكريمة ،فقال بعضهم تكرارها توكيد لوعد الله عز وجل الناجز ، وهو أنسب لبعث الأمل في النفس البشرية كأن الإنسان حين يسمع الوعد الأول في الآية يحدث نفسه بالسؤال التالي : أحق يعقب اليسر العسر ؟، فيكون التكرار جوابا عن سؤالهبه تتحقق نعمة الأمل .
وقال بعضهم جريا على أساليب اللسان العربي إن الاسم المعرّف إذا تكرر يكون هو نفسه ،بينما الاسم النكرة إذا تكرر لم يكن هو نفسه ، واستشهدوا على ذلك بقولهم :" جاءني الرجل الذي تعرفه ، وأخبرني الرجل " فتعريف الرجل المتكرر في هذا القول يعني أنه نفس الرجل ، بينما قولهم : " جاءني رجل وأخبرني رجل " فتكرارتنكير رجل في هذا القول يعني أن كلمة رجل الثانية غير كلمة رجل الأولى ، ولو أريد هنا أن كلمة رجل الثانية هي الأولى نفسها لقيل : " جاءني رجل ، وأخبرني الرجل " ،فتكون الثانية معرفة للدلالة على أن المقصود هو رجل النكرة السابقة ، فعلى هذا الأسلوب العربي حمل قول الله تعالى : (( إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ))، فقالوا العسر في هذه الآية واحد ، بينما اليسر فيها يسران ، وفي هذا فسحة أمل ، "ولن يغلب عسر يسرين" كما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال بعضهم إن الله عز وجل جمع للإنسان المؤمن يسرين يسر في الدنيا وآخر في الآخرة ، وفي هذا منتهى نعمة الأمل التي تسرّي عنه ، وتهون عليه ما يصيبه من عسر.
ومما قاله العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى أن كلمة " مع " في الآية الكريمة لم تستعمل في معناها لأن العسر واليسر نقيضان لا يجتمعان، فتعيّن أن المعيّة هنا مستعارة لقرب حصول اليسر عقب العسر أوحصول بوادره بقرينة استحالة المعنى الحقيقي للمعي"ة ، وفي هذا أيضا مزيد بعث للأمل في النفس .
ولو تأمل الإنسان مسار حياته لوجد أن كل عسر يعترضه فيها يعقبه لا محالة يسر ، وإذا ما ترسّخت لديه هذه القناعة ،عرف قدر نعمة الأمل التي أنعم بها عليه خالقه سبحانه وتعالى ، واجتهد في شكرها ، وإن شكر النعم ليكون من خلال الاستعانة بها على طاعة المنعم جل في علاه ، وإن أعظم ذنب على الإطلاق أن يستعين الإنسان بنعم المنعم على معصيته . ونسيان أو كفران شكر نعمة الأمل ،هو ما يجعل الإنسان يتجرأ على خالقه بالمعاصي .
ويجدر بنا أن نذكر بأن الكفر في حد ذاته هو كفران نعمة الأمل ، ذلك أن الكافر بخالقه وباليوم الآخر لا أمل له في حياة أخرى تعقب الحياة الدنيا . ولا يمكن أن يزعم كافر أنه يعرف الأمل ، وهو على كفره ، وإن زعم ذلك لا يخلو أن يكون حاله أحد أمرين : إما أنه عاقل يكذب على نفسه ، وإما أنه لا عقل له ولا منطق يحكمه.
والمؤمن بخالقه وباليوم الآخر ذو أمل بالضرورة ، وآية أمله إيمانه ، فإن شكك أحد في أمله صدقه إيمانه خلاف الكافر الذي لا حجة له على أمل يأمله ، ومن فقد الأمل في حياة دائمة تعقب الحياة الزائلة، فلا أمل له البتة ، لهذا قال الله تعالى في محكم التنزيل : (( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )) ،وهو ما يعني أن الكافرين لا أمل لهم . ولئن زعم أحد أن الكافرين لهم آمال، قلنا له إن آمالهم مهما كانت فهي منتهية بنهاية زوال الدنيا التي لا يؤمنون إلا بها ، وقد لا تجديهم آمالهم نفعا وإن تعلقوا بها ، وقد لا يدركون ما يؤمّلون ، ولكن لا أمل لهم في الآخرة ، بينما المؤمنون لا نهاية لآمالهم ، وإن فاتهم شيء كانوا يؤمّلونه في الدنيا، فلن يفوتهم ما يؤمّلونه في الآخرة ،وفيها ما لا عين رأت ،ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
ولو أردنا أن نقف عند قوله تعالى : (( إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا )) لكفانا ذلك دليلا على أن الأمل نعمة كبرى من نعم الله عز وجل يودعها سبحانه وتعالى في قلوب عباده المؤمنين ، ولكن لا بأس من ذكر غيرها لتتأكد القناعة الراسخة في النفوس بأن الأمل نعمة كبرى من نعم الله عز وجل . ومن تلك الآيات قوله تعالى : (( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء )) ، ففي هذه الآية الكريمة ما يبعث الأمل في نفس المضطر بغض الطرف عما اضطره ، ويبعثه أيضا فيمن يسوءه شيء مهما كان نوع الإساءة ، ذلك أن دعاء المضطر مستجاب لا محالة ، وسوءه منكشف لا محالة ، والكفيل بذلك رب العزة جل جلاله الذي لا يخلف وعدا .
ومن تلك الآيات أيضا قوله تعالى : (( وينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد ))، ففي قوله سبحانه هذا ما يبعث الأمل في النفوس بعد أن يصيبها القنوط ، وهو أشد اليأس من نزول المطر إذا ما تخلف عن أوانه . والجفاف سوء يصيب الناس، والله تعالى يكشفه بإنزال الغيث بعد يأسهم الشديد من نزوله . وهذه الآية فيها أيضا دليل على نعمة الأمل ، ونزول الغيث بعد القنوط ، وهودليل ملموس على وجودها لا ينكره إلا جاحد أو مكابر ، وفي مثل هذا المنكر الجاحد قال الله تعالى : (( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضّالون )) ولا اعتبار لجحود أو إنكار الضّالين .
وتوجد آيات كثيرة كلها تدل على نعمة الأمل الذي هو أمل في المنعم سبحانه أولا وقبل كل شيء ، وأمل بعد ذلك في حصول غيرها من نعمه ، وأكبر تلك النعم نعمة الفوز في الآخرة دار السعادة الأبدية التي تعوض من ظفر بها كل ما فاته في الحياة الفانية .
وأخير نقول إن مناسبة الحديث عن نعمة الأمل في هذا المقال ، هو ما تمر به البشرية في هذا الظرف بسبب تهديد جائحة كورونا حياة الناس في كل المعمور عسى أن يتنبّه الناس مؤمنهم وكافرهم إلى هذه النعمة، فيواجهونها بشكر المنعم ، فيرجع كافرهم عن كفره ، ورجوعه يكون عبارة عن شكر هذه النعمة ، ويعرف مؤمنهم قدرها، فيزداد إيمانا وطاعة ، وتقربا إلى الله عز وجل ،ويدفع عنه إيمانه ما يجده في نفسه من قلق أوخوف أو هلع من سوء أمر بيد الله عز وجل ، وهو القادر على صرفه كما شاء، ومتى وأنى شاء ، ويبعث فيها أملا عريضا بيسر يعقب هذا العسر لا محالة ، ويسر آخر موعود في الآخرة ، وهو اليسر .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 869