نعمة الأمل من أجلّ نعم الله عز وجل ينعم بها الإنسان ويقابل شكرها بنكران أو نسيان

محمد شركي
mohammed.said.chergui@gmail.com

من المعلوم أن نعم الله عز وجل على الإنسان لا يحصيها عد بدءا بنعمة الخلق، ومرورا بنعمة البعث بعد الموت ، وانتهاء بنعمة الخلد في دار البقاء بعد الرحيل عن دار الفناء ، وبين هذه النعم الثلاث  الكبرى توجد  نعم كثيرة تحيط بالإنسان في كل وقت وحين ، و لكنه لا يلقي إليها  بالا وهو ينعم بها إما ناسيا أو جاحدا ومنكرا .

ونعم الله عز وجل منها ما هو مادي ، ومنها ما هو معنوي ، وهذه الأخيرة هي الأكثر عرضة للنسيان أو النكران عند الإنسان  لأن مستعصية على العيان.

وسنتطرق في هذا المقال إلى نعمة " الأمل " ،وهي من النعم المعنوية التي تحفنا بها عناية الله عز وجل ورعايته  في كل وقت وحين ، ولكننا لا نقدرها حق قدرها ونحن ننعم بها.

وتطلق كلمة أمل على الرجاء القوي ، والتفاؤل الشديد ، ويكثر استعملها للدلالة على ما يستبعد  الإنسان حصوله وهو المخلوق العجول .  ومع استبعاد حصول الأمل لا مندوحة للإنسان عنه ، ولا يستطيع أن يحيى بدونه .

وتتجلى نعمة الأمل في تشبث الإنسان بالحياة  بالرغم من قسوتها وما يعانيه فيها من حرمان ، فلولها لما تشبث بها ، ولهذا يضع بعض الناس حدا لحياتهم بالانتحار عندما يفقدون هذه النعمة .

وفي رسالة القرآن الكريم الخاتمة والمنزلة على الناس أجمعين، ورد ذكر نعمة الأمل في آيات متعددة لا بأس من الوقوف عند بعضها كقوله تعالى :

(( إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا )) ، فهذه الآية كما قال المفسرون وعد ناجز من الله عز وجل الذي لا يخلف وعدا . والوعد في حقيقة أمره أمل يؤمّل . والأمل هو ما يجعل الإنسان يترقب اليسر بعد كل عسر . والعسر تنضوي تحته كل شدة مهما كان نوعها ، واليسر تنضوي تحته كل سعة مهما كان نوعها. ويستطيع الإنسان أن يضع قائمة بأسماء أنواع العسر تقابلها قائمة بأسماء أنواع اليسر ، قد تضمن قول الله تعالى في هذه الآية الإشارة إلى القائمتين معا ، وعلى كل ما فيهما من متقابلات الشدة والسعة يسري حكمها .

والمفهوم من هذه الآية أن الله عز وجل أنعم على الإنسان بنعمة الأمل حين أخذ على ذاته المقدسة وعدا بأن يجعل عقب كل عسر يسرا .

ولقد وقف المفسرون وعلماء العربية في صيغة التكراربهذه الآية الكريمة ،فقال بعضهم تكرارها توكيد لوعد الله عز وجل  الناجز ، وهو أنسب لبعث الأمل في النفس البشرية كأن الإنسان حين يسمع الوعد الأول في الآية يحدث نفسه بالسؤال التالي : أحق يعقب اليسر العسر ؟، فيكون التكرار جوابا عن سؤالهبه تتحقق  نعمة  الأمل .

 وقال بعضهم جريا على أساليب اللسان العربي إن الاسم المعرّف إذا تكرر يكون هو نفسه ،بينما الاسم النكرة إذا تكرر لم يكن هو نفسه ، واستشهدوا على ذلك بقولهم  :" جاءني الرجل الذي تعرفه ، وأخبرني الرجل " فتعريف الرجل المتكرر في هذا القول يعني أنه نفس الرجل ، بينما قولهم : " جاءني رجل وأخبرني رجل " فتكرارتنكير رجل في هذا القول يعني أن كلمة رجل الثانية غير كلمة رجل الأولى ، ولو أريد هنا أن كلمة رجل الثانية  هي الأولى نفسها لقيل : " جاءني رجل ، وأخبرني الرجل " ،فتكون الثانية معرفة للدلالة على أن المقصود هو رجل النكرة  السابقة ، فعلى هذا الأسلوب العربي حمل قول الله تعالى : (( إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ))، فقالوا العسر في هذه الآية واحد ، بينما اليسر فيها يسران ، وفي هذا فسحة أمل ، "ولن يغلب عسر يسرين" كما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 وقال بعضهم إن الله عز وجل جمع للإنسان المؤمن يسرين يسر في الدنيا وآخر في الآخرة ، وفي هذا منتهى  نعمة الأمل التي  تسرّي عنه ، وتهون عليه ما يصيبه من عسر.

ومما قاله العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى أن كلمة " مع " في الآية الكريمة لم تستعمل في معناها لأن العسر واليسر نقيضان لا يجتمعان، فتعيّن أن المعيّة  هنا مستعارة لقرب حصول اليسر عقب العسر أوحصول بوادره بقرينة استحالة المعنى الحقيقي للمعي"ة ، وفي هذا  أيضا مزيد بعث للأمل في النفس .

ولو تأمل الإنسان مسار حياته لوجد أن كل عسر يعترضه  فيها يعقبه لا محالة يسر ، وإذا ما ترسّخت لديه هذه القناعة ،عرف قدر نعمة الأمل التي أنعم بها عليه خالقه سبحانه وتعالى ، واجتهد في شكرها ، وإن شكر النعم ليكون من خلال الاستعانة بها على طاعة المنعم جل في علاه ، وإن أعظم ذنب على الإطلاق أن يستعين الإنسان بنعم المنعم على معصيته . ونسيان أو كفران شكر نعمة الأمل ،هو ما يجعل الإنسان يتجرأ على خالقه بالمعاصي .

ويجدر بنا أن نذكر بأن الكفر في حد ذاته هو كفران نعمة الأمل ، ذلك أن الكافر بخالقه  وباليوم الآخر لا أمل له في حياة أخرى تعقب الحياة الدنيا . ولا يمكن أن يزعم كافر أنه يعرف الأمل ، وهو على كفره ، وإن زعم ذلك لا يخلو أن يكون حاله أحد أمرين : إما أنه  عاقل يكذب على نفسه ، وإما أنه لا عقل له ولا منطق يحكمه.

والمؤمن بخالقه وباليوم الآخر ذو أمل بالضرورة ، وآية أمله إيمانه ، فإن شكك أحد في أمله صدقه إيمانه خلاف الكافر الذي لا حجة له على أمل يأمله ، ومن فقد الأمل في حياة دائمة تعقب الحياة الزائلة، فلا أمل له البتة ، لهذا قال الله تعالى في محكم التنزيل : ((  إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )) ،وهو ما يعني أن الكافرين لا أمل لهم  . ولئن زعم أحد أن الكافرين لهم آمال، قلنا له إن آمالهم  مهما كانت فهي منتهية  بنهاية زوال الدنيا  التي لا يؤمنون إلا بها ، وقد لا تجديهم آمالهم نفعا  وإن تعلقوا بها ، وقد لا يدركون ما يؤمّلون ، ولكن لا أمل لهم في الآخرة ، بينما المؤمنون لا نهاية لآمالهم ، وإن فاتهم شيء كانوا يؤمّلونه في الدنيا، فلن يفوتهم ما يؤمّلونه في الآخرة ،وفيها ما لا عين رأت ،ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .

ولو أردنا أن نقف عند قوله تعالى : (( إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا )) لكفانا ذلك دليلا على أن الأمل نعمة كبرى  من نعم الله عز وجل يودعها سبحانه وتعالى في قلوب عباده المؤمنين ، ولكن لا بأس من ذكر غيرها لتتأكد القناعة الراسخة في النفوس بأن الأمل نعمة كبرى من نعم الله عز وجل . ومن تلك الآيات قوله تعالى : ((  أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء )) ، ففي هذه الآية الكريمة ما يبعث الأمل في نفس المضطر بغض الطرف عما اضطره ، ويبعثه أيضا  فيمن يسوءه شيء مهما كان نوع  الإساءة ، ذلك أن دعاء المضطر مستجاب لا محالة ، وسوءه منكشف لا محالة ، والكفيل بذلك رب العزة جل جلاله الذي لا يخلف وعدا .

ومن تلك الآيات أيضا قوله تعالى : ((  وينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته  وهو الولي الحميد ))، ففي قوله سبحانه هذا ما يبعث الأمل في النفوس بعد أن يصيبها القنوط  ، وهو أشد اليأس من نزول المطر  إذا ما تخلف عن أوانه . والجفاف سوء يصيب الناس، والله تعالى يكشفه بإنزال الغيث بعد يأسهم الشديد من نزوله . وهذه الآية فيها أيضا  دليل على نعمة الأمل ، ونزول الغيث بعد القنوط ، وهودليل ملموس على وجودها  لا ينكره إلا جاحد أو مكابر ، وفي مثل هذا المنكر الجاحد  قال الله تعالى : (( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضّالون )) ولا اعتبار لجحود أو إنكار الضّالين .

وتوجد آيات كثيرة كلها تدل على نعمة الأمل الذي هو أمل  في المنعم سبحانه أولا وقبل كل شيء ، وأمل بعد ذلك في حصول غيرها من نعمه ، وأكبر تلك النعم  نعمة الفوز في الآخرة دار السعادة الأبدية التي تعوض من ظفر بها كل ما فاته  في الحياة الفانية .

 وأخير نقول إن مناسبة الحديث عن نعمة الأمل في هذا المقال ، هو ما  تمر به البشرية  في هذا الظرف بسبب تهديد جائحة كورونا حياة الناس في كل  المعمور عسى أن يتنبّه الناس مؤمنهم وكافرهم إلى هذه النعمة، فيواجهونها بشكر المنعم ، فيرجع كافرهم عن كفره ، ورجوعه  يكون عبارة عن شكر هذه النعمة ، ويعرف مؤمنهم قدرها، فيزداد إيمانا وطاعة ،  وتقربا إلى الله عز وجل ،ويدفع  عنه إيمانه  ما يجده في نفسه من قلق أوخوف أو هلع  من سوء أمر بيد الله عز وجل ، وهو القادر على صرفه كما شاء، ومتى وأنى شاء ، ويبعث فيها أملا عريضا  بيسر يعقب هذا العسر لا محالة  ، ويسر آخر موعود في الآخرة ، وهو اليسر .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 869