"اتفاق إطار" يقوم على "انقسام مضمون"!

"اتفاق إطار" يقوم على "انقسام مضمون"!

الوضع الطائفي والمذهبي في خدمة مشروع "التوطين الفلسطيني"!

صبحي غندور

[email protected]

تساؤلات عديدة تدور الآن حول الحراك الدبلوماسي الذي قام ويقوم به وزير الخارجية الأميركي جون كيري بشأن "الملف الفلسطيني"، وعلى ما يمكن أن يتوصّل إليه من إعلان "اتفاق إطار" جديد بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. 

فمنذ تولّيه مهام وزارة الخارجية قبل نحو عام، يكرّر الوزير الأميركي زياراته للمنطقة، وقد استطاع دفع السلطة الفلسطينية لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل دون شرط تجميد بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. ويعمل الوزير كيري الآن على إيصال هذه المفاوضات إلى نتيجة قبل انتهاء السقف الزمني المحدّد لها بعد شهرين تقريباً.  

طبعاً حركة الوزير كيري وتصريحاته حول مسار هذه المفاوضات حصدت الكثير من النقد والتشكّك في الوسطين الفلسطيني والإسرائيلي، كان من ضمنهما ما قاله يوفال شتاينتز، وزير الشؤون الإسترايجية الإسرائيلي، حيث شبّه الوزير كيري "بمن يُصوّب بندقية إلى رأس إسرائيل"، وقبل ذلك كانت انتقادات موشي يعالون، وزير الدفاع في حكومة نتنياهو، وهي بمجملها تحذّر من "مخاطر" قيام دولة فلسطينية وأثر ذلك على المستوطنين، كما تنتقد هذه التصريحات الإسرائيلية إشارات وزير الخارجية الأميركي إلى وجود حملة دولية متصاعدة لمقاطعة إسرائيل في حال عدم التوصّل إلى اتفاقات مع الفلسطينيين.

تُرى، ما هو سبب هذه المواقف الإسرائيلية الناقدة لواشنطن بينما ما يتمّ تسريبه من معلومات عن مضمون "اتفاق الإطار" لا يحقّق حتّى الحدّ الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة؟!. يبدو أنّ مراهنات حكومة نتنياهو ومن فيها من ممثلين عن جماعات صهيونية متطرّفة لا تريد حتّى مبدأ وجود دولة فلسطينية بغضّ النظر عن التفاصيل، وهي راهنت وما تزال على عناصر الضعف والانقسام في الجسمين الفلسطيني والعربي، وتريد توظيف ما يحدث الآن من صراعات عربية داخلية لصالح مزيد من التهويد والاستيطان بحيث لا يكون هناك مستقبلاً ما يمكن التفاوض عليه مع الفلسطينيين. يكفي الإشارة إلى ما أعلنته إسرائيل منذ نهاية يوليو/تموز الماضي عن العمل لبناء ثلاثين ألف وحدة استيطانية في الأراضي المحتلة.

لكن هل هذه الخلافات الأميركية/الإسرائيلية بشأن مشروع الدولة الفلسطينية تعني أنّ ما تقدمه واشنطن من عروض للفلسطينيين هي عروض جيدة ومقبولة من ملايين الفلسطينيين الذين شرّدتهم إسرائيل واحتلّت أرضهم منذ أكثر من ستّة عقود؟!. ما جرى تسريبه حتّى الآن من نصوص، يناقش الأميركيون مضمونها مع مفاوضين فلسطينيين وإسرائيليين، لا يشجّع الفلسطينيين على الحماس لها أو بل حتّى على قبولها. فما نُشر من بنود لهذا " الاتفاق-الإطار" يتضمّن انسحاباً إسرائيلياً من الضفة الغربية على مراحل زمنية لسنوات، وعلى أساس حدود العام 1967، لكن مع "تبادل للأراضي" بحيث تبقى في الضفة المستوطنات اليهودية الكبرى خاضعةً للسلطات الإسرائيلية مقابل أراضٍ تُمنح للدولة الفلسطينية من داخل إسرائيل. وتشمل بنود الاتفاق جعل القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية لكن ضمن المناطق التي فيها كثافة سكان فلسطينية فقط.

أي عملياً، لن تكون هناك استعادة كاملة للأراضي الفلسطينية التي احتلّت عام 1967، وكذلك بالنسبة للقدس الشرقية، لكن يحصل الفلسطينيون على "دولة فلسطينية عاصمتها القدس"، وستكون هذه الدولة "منزوعة السلاح"، وفيها تواجد عسكري أميركي وشبكة إنذار مبكّر أميركية على طول الحدود بين الدولتين، إضافةً إلى وضع ترتيبات أمنية في منطقة غور الأردن، ذلك كله لتأمين "ضمانات أمنية" لإسرائيل بمشاركة أمنية أميركية واسعة في الدولة الفلسطينية المزمع إعلانها.

وعلى الفلسطينيين في المقابل الاعتراف بإسرائيل ك"دولة قومية للشعب اليهودي" وحل قضية اللاجئين من دون المسّ بالطابع اليهودي لإسرائيل، وذلك من خلال عودة نسبة محدودة منهم، توافق عليهم إسرائيل، وبما لا يصل ربّما إلى عشرات الآلاف من الفلسطينيين، على أن يتمّ "توطين" الأعداد الكبرى من اللاجئين في بلدانهم الحالية أو تسهيل هجرة البعض لكندا أو إلى مناطق "الدولة الفلسطينية" بعد إعلانها، مع دفع تعويضات لهم تمكّنهم من العيش كمواطنين في تلك البلدان. وسيسري "مبدأ التعويض" أيضاً على اليهود العرب الذين هاجروا إلى إسرائيل. أي سيتمّ وضع اللاجئ الفلسطيني الذي طُرد من أرضه ووطنه في مستوًى واحد مع اليهودي العربي الذي هاجر إلى إسرائيل ليأخذ منزل الفلسطيني المهجَّر وليقيم "دولة إسرائيل" على أرض فلسطين!.

  طبعاً حل قضية اللاجئين الفلسطينيين ووضع ترتيبات أمنية أميركية للضفة الغربية ووجود "دولة فلسطينية" يقتضي درجاتٍ عالية من التنسيق الأميركي مع الأردن، ولذلك يستضيف الرئيس الأميركي أوباما العاهل الأردني الملك عبد الله في ولاية كاليفورنيا بمنتصف الشهر الحالي، بعد أن التقاه أيضاً في عمّان خلال زيارة أوباما للمنطقة في ربيع العام الماضي.

الأخطر فيما نراه يحدث حالياً هو هذه المراهنات على سوء الأوضاع العربية والفلسطينية من قبل الطرفين الإسرائيلي والأميركي. فحكومة نتنياهو ترفض منذ وجودها في مطلع عام 2009 الدخول في تسويات نهائية بشأن القضية الفلسطينية، وهي عملت جاهدة على إفشال الحراك الأميركي الذي قام به جورج ميتشل، وسعت وما زالت لجعل الصراع مع إيران هو أولاً، ولتوريط الولايات المتحدة في حرب عسكرية ضدّها، بحيث تتوالد مناخات لصراعاتٍ طائفية دامية في العالمين العربي والإسلامي، تُهمّش نهائياً القضية الفلسطينية، وتُبرّر وجود دويلات طائفية ومذهبية في المنطقة. كما استفادت إسرائيل وتستفيد كثيراً من التداعيات السلبية التي رافقت الانتفاضات الشعبية العربية، ومن ظواهر العنف الطائفي الدموي الذي يحصل الآن في عدّة بلدانٍ عربية من جماعاتٍ ترفع شعارات دينية إسلامية وتخدم في أعمالها الإرهابية السياسة الراهنة لحكومة نتنياهو.

على الطرف الأميركي، نجد إدارة أوباما التي تزامن وجودها مع وجود حكومة نتنياهو، تسعى أيضاً لتوظيف واقع الحال العربي والفلسطيني لكن من أجل تحقيق أجندة تسويات شاملة لكلّ أزمات منطقة الشرق الأوسط وفقاً للرؤى والمصالح الأميركية، والتي تراعي حتماً أمن دولة إسرائيل بغضّ النظر عن الحاكم فيها، وفي صلب هذه الأجندة فرض صيغة تسوية نهائية للصراع العربي/الإسرائيلي، وفي مقدّمته القضية الفلسطينية. لكن كانت مسألة مصير الملايين من اللاجئين الفلسطينيين، وما تزال، هي العقبة الأكبر أمام أي مشروع تسوية لهذا الصراع. لذلك، ربّما تجد الإدارة الأميركية فرصة مناسبة جداً الآن لحلّ قضية اللاجئين الفلسطينيين بتوطين معظهم في دول المشرق العربي من خلال استغلال الانقسامات الطائفية والمذهبية الحاصلة حالياً في هذه البلدان. فظهور جماعات تتحدّث الآن عن اضطهاد "حقوق المسلمين السنّة" وعن مخاطر  الغالبية العددية من "المسلمين الشيعة" ربّما يدفع إلى القبول بزيادة عدد السكّان "المسلمين السنّة" من أتباع الأصول الفلسطينية لتحقيق "توازنات عددية" في هذه البلدان!. أمّا عن الفلسطينيين المسيحيين فهناك "تشجيع غربي" لهم ولآخرين من المسيحيين العرب للهجرة إلى أوروبا وكندا بأشكال مختلفة، وأيضاً كجزء من توظيف لما يحدث من أعمال أجرامية ترتكب بحقّ مسيحيين عرب وممتلكاتهم لدفعهم إلى هجرة أوطانهم.

في الحالتين، الإسرائيلية والأميركية، لا اعتبار قائماً لموقف فلسطيني موحّد ولا طبعاً لموقف عربي موحّد أو لضغوطات عربية فاعلة تُحسّن الشروط الفلسطينية في المفاوضات. فالضغوط تحصل فقط من الجانب الإسرائيلي على إدارة أوباما التي تمارس بدورها ضغوطاً على الجانب الفلسطيني الفاقد لأيِّ دعمٍ عربيٍّ فاعل، أو لإجماع فلسطيني حوله، والأعزل من سلاح المقاومة، والمحتاج للدعم المالي الأميركي لاستمرار السلطة التي كانت صنيعة توافق "أوسلو"، هذا الذي جرى إعداده بالخفاء ولم يحقّق للفلسطينيين شيئاً هامّاً بعد أكثر من عشرين سنة على توقيعه. فهل يكرّر التاريخ نفسه الآن مع "اتفاق إطار" سيقوم على "انقسام مضمون"؟!