ما بعد "جنيف 2" كما قبله

ما بعد "جنيف 2" كما قبله

فادي شامية- إسطنبول

لم يكن مؤتمر "جنيف 2" إلا استحقاقاً؛ فُرض على النظام والمعارضة على حدٍ سواء. كان واضحاً للطرفين أن المؤتمر فاشلٌ قبل أن يبدأ، لكن الضغط الغربي لم يترك للطرفين إمكانية التمنع عن الحضور، فحمل كلا الطرفين أقصى مطالبهما؛ طالب النظام بالقضاء على المعارضة المسلحة باسم "محاربة الإرهاب"، والمعارضة طالبت بإسقاط النظام تحت مسمى "الحكومة الانتقالية".

في الشارع السوري بدا الأمر متبايناً؛ ما بين مرهقٍ يريد حلاً يعيد له الأمان، وما بين مشدودٍ لتحقيق انتصار على الآخر. هذه الشريحة الأخيرة اعتبرت كل من ذهب إلى جنيف خائناً؛ ما عكس ارتباكاً واضحاً في موقف "الائتلاف الوطني السوري" من المشاركة في المؤتمر، لا سيما بين قيادات "المجلس الوطني" (يتشكل "الائتلاف" من "المجلس الوطني" 40%، ومن باقي قوى المعارضة 60%)، حيث صوّتت نسبة كبيرة ضد التوجه إلى "جنيف 2"، فيما انسحب 44 عضواً من المجلس بسبب ذلك (وأمور أخرى)، وبدا أن التوجه الأولي للمجلس هو الانسحاب من "الائتلاف" في حال مضى في المشاركة في المؤتمر.

الحال نفسه ساد داخل الأطر القيادية لدى كبرى التنظيمات المعارضة؛ "الأخوان المسلمين"، لكن الواقع أن الشخصيات البارزة التي شاركت في مؤتمر "جنيف 2" كانت تنتمي إلى "المجلس الوطني" بما في ذلك أحمد الجربا، وبعضها محسوب على "الأخوان"، بحيث كان واضحاً أن الضغط الأميركي خصوصاً والغربي عموماً؛ لم يترك مجالاً لتملص المعارضة من الحضور.

حذر الأميركيون النظام عبر الروس، وحذروا المعارضة مباشرةً. الجميع كان محرجاً؛ الأميركيون يريدون إنجازاً يتمثل في وضع خارطة طريق تفضي إلى ما هو أقرب إلى مصالحهم، والنظام يريد أن يسوّق طرحه في "مكافحة الإرهاب"، والمعارضة لها مصلحة في أن تظهر كممثل شرعي للشعب السوري، لكن الجميع كان عاجزاً عن تحقيق ما يريد، فاكتفى كلٌ منهم بإعلان أقصى مواقفه، وتحوّل المؤتمر إلى مهرجان خطابي يقول كلٌ فيه ما يبيعه لجمهوره، وبذلك خلا المؤتمر من أي انجاز، ولو مجرد تبادلٍ للأسرى أو فك الحصار عن أي منطقة (حمص- مخيم اليرموك...).

في القراءة السياسية الموضوعية -ورغم كل سلبيات المؤتمر-؛ فإن ظهور ممثل آخر للشعب السوري، معترف به دولياً غير النظام، يعد إنجازاً "ثورياً"، خصوصاً بعدما فرض هذا الممثل على العالم استبعاد إيران عن الحضور. والواقع؛ أن النظام لا المعارضة كان مضطراً للتعايش مع هذا الواقع، رغم النبرة العالية لوليد المعلم وعمران الزعبي والآخرين.  

أكثر من ذلك؛ فقد حققت المعارضة السورية -رغم كل ارتباكاتها- مكاسب في مؤتمر جنيف، على صعيدها كمعارضة، إذ صار "الائتلاف" هو الجهة الوحيدة الممثلة للمعارضة، بعد مدة طويلة من الحديث عن معارضة الداخل والخارج، والمكونات المعارضة الأخرى، و"هيئة التنسيق"، وغير ذلك من المسميات...

وفي الواقع؛ فإن المؤتمر شق طريقاً لن تظهر نتائجه الآن ولكن في اللحظة التي تتغير فيها موازين القوى على الأرض؛ يصبح هذا المؤتمر، وما سيليه، هو التعبير السياسي عن التغيير في سوريا، لأن قيمة أي انتصار عسكري؛ لا تظهر إلا بشكل سياسي، وتجربة الثورة الليبية أقرب مثالاً إلى ذلك، لأن ليبيا احتاجت إلى 7 أو 8 مؤتمرات بعد القذافي إلى رسم معالم ليبيا جديدة.

في كواليس المؤتمر كانت "داعش" حاضرة أيضاً. قتال باقي فصائل الثورة السورية لـ "داعش" أنقذ الثورة، دون أي مبالغة. كان الأوروبيون على وشك الرضا بالمر (نظام الأسد) مخافة أن يأتيهم ما هو أمرّ (داعش). في مؤتمر باريس الذي سبق "جنيف 2"، بدا الأوروبيون أقرب إلى المعارضة السورية وطروحها، بعدما أراحهم كثيراً قرار مقاتلة "داعش"، وكانوا -ومن خلفهم الأميركيون- واضحين في رغبتهم إنهاء الأزمة في سوريا، شرط اطمئنانهم لليوم التالي، بعد بشار الأسد، لا سيما هوية خلفاء بشار ونظرتهم إلى الأقليات و"الديمقراطية" وحقوق الإنسان، ولا مبالغة في القول إن الإجابات المقنعة عن هذه الموضوعات تحدد مصير بشار إلى الأبد!.

ما بعد مؤتمر "جنيف 2" كما قبله. الكل يحاول تحقيق مشروعه. توقفوا في محطة وسيتابعون... وما دام التغيير الميداني الحاسم لم يحصل لكلا الطرفين؛ فإن العالم سيشهد مؤتمرات إضافية لن تفضي كلها إلى النهاية ما لم يأتِ أوانها.