رسالةُ الصوم ...
لذاتِ الإنسان أفقٌ مشرقٌ يبددُ عنه ظلماتِ الحياة الدنيا ، يأوي إليه كلما اشتدت تلك الظلمات بالأكدار والمنغصات ، ويشعر بأن شيئا يدفعه للخلاص من قيود الشهوات المحرمة وإغراءاتها ، والنجاة من غمم الزمان ورزاياه ، والفوز بالقبول من الله تبارك وتعالى ، ، فيغسل روحه بأنوار الهداية ، ويعود بعد أن أسرف في الخطايا إلى جادة الصواب ، إلى أفضل النجدين وأسمى الطريقين : ( إنا هديناه النجدين إما شاكرا وإما كفورا ) ، وفي هذا الشهر المبارك تتجلى رحمة الله بعباده ، حيث تُفتح أبواب السماء آناء الليل وأطراف النهار تستقبل التائبين المستغفرين العائدين من أسواق الدنيا البائرة إلى جادة الحق والصواب ، والصالحون تلقوا هذه النسمات الغيبية بما تستحق من إصغاء لصوتها ، ومن حركة جليلة لسيرة حميدة تترجمها أقوال الناس وأفعالهم ، قال لقمان لابنه : ( عوِّد لسانَك على ( اللهم اغفر لي ) فإن لله ساعات لايرد فيها سائلا ، ولقد ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( طوبى لمَن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا ) وهنا يحور الإنسان الواعي إلأى نفسه وفطرته ، ويمتلكه الحنين إلى عالَم آخر يتحرَّاه المؤمن خلف آفاق الغيب ، فتشرئب روحه التوَّاقة إلى وعد الله بالسعادة الأبدية التي ينالها العباد الصالحون بإيمانهم المطلق بربهم ، وبكفرهم بكل أنواع الأوثان التي يعبدها الناس من دون الله : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) ، إن الشرك بالله سقوط بقيمة الإنسان الذي فضله الله وأكرمه ، وهو باب الغضب الإلهي على هذا المشرك المسرف ، الذي أغفل مالله من عفو ومغفرة ، فلو قام العبد يريد الله بصدق لمشى الله إليه برحمته وعفوه ، ولو مشى العبد إلى الله بهمة وصدق لهرول إليه ربُّ العزة والجلال ، فلطف الله ورحمته لاحدود لهما ، فالإقبال على الله بتوبة صادقة هي بادرة التغيير في النفس ، وعلى عتباتها يمحو الله ماكان من عبده و ( الإسلام يهدم ما قبله ) كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وبالتوبة والاستغفار يشعر المسلم بالقوة ، ويأمن من العذاب ، ويحظى بجنة الله ورضوانه وبالعز والسعادة التي ينشدها الناس في دنياهم : يقول سبحانه : ( ويزدكم قوة ) ، ويقول عزَّ وجلَّ : ( وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) ، ويقول تعالى : ( يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ، ويجعل لكم جنات ، ويجعل لكم أنهارا ) ،، فهل بعد هذا من خير ؟ إذن : ( أفلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ؟ !
إنها رسالة الرحمة الإلهية للخلق أجمعين ، فإن الله أراد لهم سعادة الدارين ، فسخر لهم مافي الأرض وما في السماء ، وهيأ لهم أسباب تلك السعادة على أبهى وأجلى صورها ، ومهد لهم بعفوه سبل النجاة ، وأوقد لهم معالم الفوز على طريق الحياة ، ولم يدع من خير إلا وأمر للأخذ به ، ولم يدع من شر إلا وحذَّرهم منه ، وأشرع لهم بسابق رحمته أبواب الرضوان الأكبر ، يقول الله تعالى في الحديث القدسي ( أنا عند ظن عبدي بي. وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلى شبرا، تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) . وإنها دعوة من الله لعباده إلى صدق الإنابة وسمو التقوى التي تترجم تلك الإنابة بالعمل الصالح ( منيبين إليه واتقوه ) .
فما أجلها من رسائل ربانية يتلقاها المسلم فينهض بقوة وهمة إلى ربه عزَّ وجلَّ ليحظى بالبراءة من النار ومن النفاق ، عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَن صلى أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءة من النار ، وبراءة من النفاق ) رواه الترمذي . وتهز المسلمَ الأشواقُ إلى نُزُلِ يومِ الدين ، وما أدراك ما نُزل يوم الدين ، فيهرع إلى بيوت الله يؤدي فريضة الصلاة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلك : ( مَن غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ اللهُ له نُزُلا في الجنة كلما غدا أو راح ) رواه البخاري ومسلم . هذا بعض ماللصلاة من مكانة وفضل ، فما بالك بالصوم وبتلاوة القرآن الكريم وبالذكر وبالقيام بالواجبات الاجتماعية تحت خيمة الإخاء والمودة والتواصل والتراحم والتكافل ، إن الإسلام جعل كل مافي الدنيا سوقا لتجارته الرابحة ، لأنها تجارة الهداية والتراحم ولن تجد غيرها من تجارة يرضاها الله ويبارك فيها .
وفي شهر الصوم تزدان أسواق الرضوان وتزدهر بالاعنكاف ، حيث يتخلى المرء عن شهواته وملذاته وزياراته وبهرج دنياه ، ويقبل بكليته على مولاه ، والاعتكاف نوع من التربية الربانية الروحية ، وهو السُّمُو الأعلى للنفس البشرية التي تناجي ربها وتقنت له ، وتدخل بكليتها في ديوان رضاه ، لتصوغ توجهها صياغة ربانية تقوم على توحيد الله والالتجاء إليه ، ومن ثم تسعى في فعل الخير المتمثل في إعمار الأرض بالأمن . الأمن الذي يجد فيه الإنسان ذاته ، فيسعد في رحاب هَدْيِ الله تبارك وتعالى ، بعد أن نجح في حيازة وثيقة الإيمان : ( يا أيها الذين آمنوا : اركعوا واسجدوا ، واعبدوا ربَّكم ، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ) 77 / الحج . هذا نداء الله للمؤمنين به ، المتمثل معنى العبودية في صلاة المؤمن ، وفي توحيده لربه ، وفي إعماره الأرضَ بالخير الذي تتنوع أبوابه ، وتتعدد مقاصده . فالإسلام بهذا يدعو إلى الزهد المتميز بالنقاء الروحي ، أي بالظمأ إلى مايرقى بالنفس الإنسانية ، مع محافظته على حاجات الجسد للبقاء في خدمة ذلك الرقي ، وهنا تتجلى ماللروح من تأثير سام على الجسد ، فإذا ماتغلبت شهوات الجسد على تأثير الروح ، سقط الإنسان في يد الشيطان ، فيأخذه إلى البوار في الدنيا ، والخسران المبين في الآخرة . إن العناية بسمو الروح تعني البدء بالسير على هدى وبصيرة من الله ، وأما العناية بمتطلبات الجسد الحيواني فإنها ارتكاس وتدنٍّ إلى أسفل ، حيث الشيطان ومساراته الهابطة . وهنا يكون الصوم علاجا لهذا الارتكاس ، ومنقذا من طغيان حاجات الجسد إذا لم تقيدْها شريعةُ الله ، وتوجهها تعاليمُه القويمة . ويكون الصوم سلاحا ذا أثر فاعل للانتصار على العدو البغيض للإنسان ألا وهو الشهوة المحرمة التي تكون حجابا بين العبد وربه سبحانه وتعالى . ويكون الصوم موسما للاستعداد بقبول مكارم الأخلاق للنفس ، فبها يكون الإعمار للمجتمع الإنساني الذي يريده الإسلام على وجه الأرض . فالجسد يصوم عن الطعام والشراب والشهوة ، واللسان يصوم عن الغيبة والنميمة وشهادة الزور ، والعين تصوم عن النظر إلى المحرمات ... وهكذا فإن جميع أعضاء الجسد تصوم عمَّا لايحق لها أن تستبيحه في ليل أو نهار . ويكون الصوم قوة روحية للصائم يواجه بأسلحتها إغراءات الحياة ، إنَّ الحياة الحقيقية التي لاتفنى عند المسلم الصائم هي في هذا الصوم الذي يغذي حركة الحياة بالقيم والفضائل والمثوبة التي لاتنقطع حتى بعد موت الجسد . لأنه انتصر على نفسه بالصوم فمنحه هذا الانتصارُ القوةَ والإرادةَ التي يفتقدهما أهل الضلال والفساد وأبناء الشهوات التي حرمها الله . ولذلك سنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الاعتكاف ، واعتكف في مسجده المبارك ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يومًا ((رواه البخاري)). وما أحسن ماجمع له ابن القيم في هذا المجال حين قال : ( لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيّته على الله، ولمّ شَعَثِه بإقباله بالكليّة على الله تعالى، فإن شعث القلب لا يلمّه إلا الإقبال على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثاً ويشتّته في كل وادٍ، ويقطعه عن سيده إلى الله ـ تعالى ـ، أو يضعفه، أو يعوقه ويوقفه: اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوِّقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم ) ، وهذه إشراقة تمنح العبد قربا ومحبة لربه ، وتدله على حِلية النفس في إعانة الفقراء ، وربما أدرك المعتكف ليلة القدر فينال منها خيرا كثيرا (ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه ) . والمعتكف همُّه ومنهجُه ذكرُ الله عزَّ وجلَّ ، وأهل الذكر هم أهل المغفرة والمثوبة ، يقول المولى تبارك وتعالى : ( والذاكرين اللهَ كثيرا والذاكرات ، أعدَّ اللهُ لهم مغفرة وأجرا عظيما ) ، فصفاء القلب ، وخلو البطن من التخمة ، يزيدان الصائم المعتكف قربا من الله ، فيكون من المفرَّدين السابقين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سبقَ المفرَّدون ). قالوا: وما المفرَّدون يارسولَ الله ؟ . قال : ( الذَّاكرون اللهَ كثيرا والذَّاكرات ) رواه مسلم . وهنا وقفةٌ لطيفةٌ أثيرةٌ خفيَّةٌ في أن ذكر الله على كل حال وفي كل آن له سرٌّ ، ولننظر إلى توجيه المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل يقول يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت على فدلنى على عمل واحد أتشبث به فقال النبى صلى الله عليه وسلم: (لا يزال لسانك رطبا بذكر الله ) ، وجاءه رجل آخر يسأل : يا رسول الله أيُّ الإسلام أفضل؟ أيُّ العمل أفضل ؟ فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: ( أن تموت ولسانك رطبٌ بذكر الله ) . ويوجهنا الحبيبُ صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفضيلة فيقول : ( ألا أدلكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة. وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ). قال الصحابة: بلى يا رسول الله قال : (ذكر الله تعالى ) . وهل أجلُّ وأعظمُ من أن تأتي الملائكة إلى مجالس الذاكرين ، وتتنزل رحمة الله وسكينته عليهم ؟ يقول النبى صلى الله عليه وسلم: (لايقعد قوم يذكرون الله عزوجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وتنزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده ) . أولئك هم الخلصون من عباده فطوبى لهم وحُسن مآب : يقول سبحانه : ( وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) .
وسوم: العدد 874