لا يخلط بين الغيب والأسطورة والخرافة إلا من يركب رعونته الإلحادية
منذ حلول جائحة كورونا، وفريق ممن يركبون رعونتهم الإلحادية بشكل صريح أو بنوع من التمويه على ذلك ، وهو ما يسميه الشرع الإسلامي النفاق، يحاول النيل من الغيب الذي هو عقيدة المسلمين لقول الله تعالى في محكم التنزيل :
(( ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون )).
فهذا النص القرآني يجعل الإيمان بالغيب كإقامة الصلاة وكإيتاء الزكاة وكالإيمان بالقرآن وكالإيمان بما أنزل من قبله ، وكاليقين بالآخرة . وقد ذكر فيه الغيب عموما ثم ذكرت بعد ذلك بعض جزئياته كنزول القرآن ،ونزول ما قبله من الكتب ، وكالآخرة التي تكون بعد فناء البشرية وبعثها من جديد لتحاسب على ما فعلت .
والفيصل بين المتقين والمهتدين وغير المتقين وغير المهتدين هو الإيمان بالغيب في عمومه وفي جزئياته.
ولقد ورد في كتب التفاسير أن هذا النص القرآني أشار إلى فئتين من المتقين المهتدين والمفلحين: هم فئة لم تكن مؤمنة بالغيب من قبل وهم العرب وقد آمنوا به ، وفئة أهل الكتاب الذين كانوا يؤمنون به من قبل وقد ورد ذكره في كتبهم .
ومع جلاء أمر الغيب في هذا النص القرآني ، وهو مدار الإيمان ، فإن ركاب الرعونة الإلحادية يجعلون الغيب في سلة واحدة مع الأسطورة والخرافة والدجل بكل وقاحة .
ومن نماذج هذه الوقاحة ما جاء في مقال نشره موقع هسبريس تحت عنوان : " أحرشاو يتتبع تأويل الكوارث والجوائح المفاجئة بين العلم والخرافة " وقد قدم صاحبه على أنه خبير في زمن كثر فيه الخبراء عندنا ، وصارت الخبرة في حكم السائبة لأنه بإمكان كل من هب ودب أن يوصف بها .
ولبيان كيف جعل الغيب مع الأسطورة والخرافة في سلة واحدة نورد ما جاء في مقاله تحت عنوان جانبي هو : "جائحة كوفيد ـ 19 بين التفسيرين العلمي والغيبي ": يقول بالحرف :
"نشير إلى أنه خلال الكوارث والأوبئة المفاجئة غالبا ما يحصل ارتباك خطير بين الخطاب المبرر بالتفسيرات العلمية والخطاب المعلل بالتأويلات الغيبية . فمتى تعذر شرح ما لا يمكن تفسيره بالعلم والمنطق إلا وتم التوسل في شرحه (للعامة من الناس ) إلى الغيب والخرافة والإشاعة . وهذا أمر عاشته البشرية خلال كثير من الأوبئة السابقة ، حيث تتحدث نصوص بلاد ما بين الرافدين عن استمتاع الآلهة بنشر الأوبئة على الأرض .وفي المقابل تلقي نصوص أبوقراط اللوم على تفشي وباء التيفوس باليونان في القرن الخامس قبل الميلاد على متسبيبي تلويث الهواء والماء والطعام بالميكروبات . وفي حديث متفق عليه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حول وباء الطاعون يقول : " إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منها " بمعنى أن المرء عندما يعلم بحلول الوباء ببلد ما ، فالمفروض ألا يزور ذلك البلد ، ولكن إذا حل ذلك الوباء في البلد الذي يتواجد فيه ، فالواجب ألا يغادره ، فالمرء مطالب بعدم الهروب من الإرادة الإلهية . ومن جهتها عملت الحضارة اليهودية المسيحية على تقديم تفسير أكثر أخلاقية للأوبئة ، بدعوى أن الله يتخذ من الموت بفعل الوباء العقاب المستحق لكل مقبل على الخطيئة والعصيان . وفي العصور الوسطى كان السائد عدم الثقة في الطب لأنه يمثل عقبة أما الإرادة الإلهية في تدنيس الجسد بالمرض والوباء ".
إلى أن يقول : " أصبحنا مجددا أمام ممارسات وسلوكيات تغذيها وصفات تتراوح بين نزعات عقدية دينية وبين تفسيرات غيبية أسطورية ثم بين تأويلات غارقة في الدجل والخرافة . وهذه مسألة توضحها السلطة العقدية التي يمارسها كثير من رجال الدين بمختلف مشاربهم على مريديهم وأتباعهم بدعوتهم إلى التمرد على فيروس كورونا ومجابهته بطقوس دينية تارة ، وخلطات عشبية غريبة تارة أخرى فتبعا لمشايخ وقساوسة وحاخامات الديانات الثلاث ، فهذا الفيروس لا يصيب لا المسلمين ولا المسيحيين ولا اليهود . وهذه المسألة تؤكد عليها فتاوى كثير من شيوخ المسلمين ، ووصفات عديد من القساوسة المسيحيين، ودعوات كثير من الحاخامات اليهود . وهي بمثابة خلطات عجيبة وغريبة لتطويق هذا الوباء الذي استعصى علاجه حتى الآن على أشهر مختبرات العالم وأجود علماء المعمور " انتهى كلام صاحب المقال .
وفيما يلي الرد على وقاحته في حشر الغيب مع الأسطورة والخرافة والدجل :
بداية لا بد من بيان الفرق بين الغيب والأسطورة والخرافة والدجل :
ـ الغيب: لغة ما غاب عن الحواس ولم تدركه ، واصطلاحا هو العالم المقابل لعالم الشهادة، وقد أخفاه الله عز وجل لحكمة اختبار البشر ، وسيكشف عما شاء سبحانه وتعالى منه في الآخرة . وقد ورد ذكره في كتاب الله عز وجل في أكثر من ستين موضعا ومن الغيب الملائكة واليوم الآخر والجنة والنار ... إلخ والغيب حقائق يقينية لا ريب فيها ، وقد أقام الله عز وجل أدلة دامغة من عالم الشهادة على عالم الغيب . ولا يصح إيمان الإنسان إلا إذا آمن بالغيب .
ـ الأسطورة :عبارة عن حكايات أو قصص تنسب لأزمنة قديمة تدور حول أحداث متخيلة وغير حقيقية وتتعلق بالخوارق .
ـ الخرافة :هي الأحاديث الكاذبة والباطلة .
ـ الدجل : هو التمويه والادعاء والكذب .
ولا يمكن بحال من الأحوال أن يخلط ذو عقل بين هذه الأمور الأربعة . ومن التجني على الغيب أن يسلك مع الأساطير والخرافات والدجل .
وصاحب المقال يذكر في عنوانه الكبير العلم مقابل الخرافة ، وفي عنوانه الفرعي يجعل التفسير العلمي مقابل التفسير الغيبي ، الشيء الذي يعني أنه يجعل الخرافة والغيب شيئا واحدا مقابل العلم والمنطق .
وفي الفقرة الواقعة تحت العنوان الفرعي يتحدث عن خطاب مبرر بالتفسيرات العلمية ،وعن خطاب معلل بالتأويلات الغيبية ، وهو بذلك يجعل الغيب والخرافة والإشاعة شيئا واحد . ويجعل النصوص الأسطورية لبلاد الرافدين والتي ذكر أنها تتحدث عن علاقة الأوبئة بالآلهة ، ونصوص أبوقراط اليوناني التي تتحدث عن وباء التيفوس كحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وباء الطاعون ، الشيء الذي يؤكد مرة أخرى أنه لا يميز بين الغيب والأسطورة والخرافة والدجل . ولقد جعل (العامة من الناس) بين قوسين ، كما جعل عبارة (صلى الله عليه وسلم ) بين قوسين ، والمعروف أن وضع الكلمات بين قوسين يكون إما للشك أو للتعظيم أو للتحقير ، وواضح أن القوسين الأولين يشيان بالتحقير والاستخفاف ، ولا ندري هل القوسان الآخران للتعظيم أم للسخرية ،ونكل نية صاحب المقال لعالم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى ، وإن كان سياق الحديث في مقاله يرجح أن وضع عبارة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بين قوسين كوضع عامة الناس ليست للتعظيم خصوصا وأنه جعل حديثه الشريف في نفس الخانة مع حديث أسطورة بلاد الرافدين ، وحديث أبوقراط . ومما يؤكد على ذلك عدم ذكره حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين . ولقد نسي أو تناسى صاحب المقال مكابرا دون شك أن هذا الذي جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحجر الذي تعتمده كل دول المعمور العلمانية والمتدينة على حد سواء ، وأنه لا علاقة له بالأسطورة والخرافة والشعوذة بل هو ما دعا إليه العلم والمنطق .
وأما اليهود والنصارى فقد قدموا تفسير أكثر أخلاقية للأوبئة على حد زعم صاحب المقال ، وإن كان لا يتفق مع تفسيرهم الذي يرى أن الأوبئة عقاب إلهي لأن هذا التفسير لا يختلف عن تفسير أسطورة بلاد الرافدين .
وذكر أنه في القرون الوسطى كان السائد عدم الثقة في الطب ،لأنه كان يمثل عقبة أمام الإرادة الإلهية ، ولا ندري هل يقصد تعميم هذا الذي كان سائدا على العالم أجمع أم أنه يقصد أنه كان سائدا في الغرب المسيحي، علما بأن القرون الوسطى كانت فترة الازدهار العلمي في بلاد الإسلام ، وكان الأطباء المسلمون أشهر أطباء تلك الفترة التاريخية كما يشهد على ذلك التاريخ ، ولم يثبت أن المسلمين لم يكونوا يثقون في الطب يومئذ ولا اليوم .
ولقد افترى صاحب المقال الكذب على مشايخ المسلمين بزعمه أن لهم فتاوى تدعو إلى التمرد على وباء كورونا ومجابهته بطقوس دينية ، وخلطات عشبية غريبة ، وهو الوباء الذي استعصى حتى الآن على أشهر مختبرات العالم وأجود علماء المعمور . وعليه أن يقدم دليلا واحدا على وجود مثل هذه الفتاوى بالمعنى الشرعي للفتاوى ، علما بأن أعلى هيئات الإفتاء في بلادنا على سبيل المثال وهو المجلس العلمي الأعلى الذي يرأسه أمير المؤمنين لم يصدر عنه ما يدعو للتمرد على الوباء بل صدر عنه ما يساير إجراءات الاحتراز من انتشاره كما يدعو إلى ذلك العلم والاختصاص حتى أنه تم الافتاء بإغلاق المساجد ، فهل إغلاق المساجد طقس يمثل التمرد على الوباء ؟ ولا ندري عن أية خلطة عشبية يتحدث ، وهل إعداد الخلطات العشبية من اختصاص مشايخ الإسلام ؟ ولا شك أن صاحب المقال لا يستحيي ،لهذا حق له أن يقول ما شاء ، وأن يفتري ما شاء .
ولعلم صاحب المقال وراكب رعونته الإلحادية كما يشهد بذلك ما جاء في مقاله أن الوباء حسب شهادة اثنين من الحائزين على جائزة نوبل في مجال البحث الجرثومي قد خرج من أحد أشهر المختبرات العالمية التي أشاد بها ، وأن أجود علمائه هم من يقفون وراء تصنيع فيروس هذا الوباء على حد قول العالمين الياباني والفرنسي الحائزين على جائزة نوبل . ولا زالت الصين ترفض لحد الساعة إجراء تحقيق في الموضوع ، ولا زالت الولايات المتحدة تتهمها ، ولا زال الرأي العام العالمي ينتظر الكشف عن حقيقة وجود وانتشار فيروس هذا الوباء .
وأخيرا نشير إلى أن إن الذي أقلق صاحب المقال كما أقلق غيره من العلمانيين المصرحين بعلمانيتهم أو المموهين عليها بشكل أو بآخر هو توجّه المسلمين إلى الله عز وجل بالدعاء لرفع الجائحة ، وهو أمر تعبدهم به سبحانه وتعالى ، وهو أمر يعبر عن عقيدتهم وإيمانهم بالغيب ، وهي عقيدة مخالفة لعقيدته وعقيدة أمثاله ممن ينكرون الغيب . وليس إنكار الغيب من العلم والمنطق في شيء بل هو مجرد رعونة إلحادية .
وسوم: العدد 875