الدروس الأولى من مسجد آيا صوفيا
قبل 86 عامًا حُوِّل مسجد آيا صوفيا إلى متحف، والآن أُعيد إلى صبغته الأصلية ليصبح مسجدًا، وذلك بناء على مرسوم أصدره الرئيس أردوغان خلال الفترة الماضية.
في الواقع إن قرار أردوغان جاء بناء على حكم المحكمة الإدارية العليا، التي حسمت هذا النزاع القضائي الذي استمر لسنوات، وبناء على الوثائق المتوفرة أصدرت المحكمة قرارًا ينص على أن آيا صوفيا تعود ملكيته إلى وقف أسسه السلطان محمد الفاتح، وبالتالي لا يمكن استغلاله لأي أغراض أخرى غير كونه مسجدًا، وهو ما نُصَّ عليه في وثيقة سند الملكية.
وبعد أن صدر حكم قضائي بأن قرار مجلس الوزراء القاضي بتحويل آيا صوفيا إلى متحف في عام 1934، هو قرار باطل وغير قانوني، لم تعد هناك أي عوائق تمنع إعادة آيا صوفيا إلى صبغته الأولى.
كما إن عملية تجريد آيا صوفيا من صبغته الإسلامية قبل قرابة 100 عام، كانت حدثًا ذا رمزية للعالم الإسلامي بأسره لا للشعب التركي فقط، ولم يكن ممكناً لأي شخص يهتم باستقلالية وكرامة المسلمين أن يقبل هذا التصرف الذي عُدَّ غير ملائم بالنسبة لصرح مثل آيا صوفيا، كما تُعدّ عملية تحويل آيا صوفيا إلى متحف في ذلك الوقت، مرتبطة بالأوضاع التي كان العالم الإسلامي يمر بها مع نهاية الحرب العالمية الأولى.
ومن أبرز سمات تلك الفترة أن المسلمين أصبحوا بدون قيادة أو تمثيلية في مسرح السياسة الدولية، ولم تكن هنالك حينها أي آلية سياسية أو دولة تمثل العالم الإسلامي الكبير؛ لهذا فإن الناس -المتدينون منهم خاصة- رؤوا في تحويل المسجد إلى متحف مصدر حزن كبير.
وفي الثقافة الإسلامية في تركيا تضاهي قيمة آيا صوفيا المسجد الأقصى، الذي يُعدّ علامة على ضعف الأمة وتعرضها للاحتلال والعجز، وفي نفس الوقت يمثل بارقة أملًا لإحياء الوحدة ودافعا لتواصل المقاومة والنضال.
وقد كُتِبت العديد من القصائد والأغاني والمرثيات في هذا المسجد؛ لذلك فإن إعادة فتح آيا صوفيا لم تحظَ فقط بدعم حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية؛ بل إن كل فئات المجتمع التركي رحبت بهذا القرار بحماس كبير، حتى إنّ حزب الشعب الجمهوري الذي حوَّل آيا صوفيا إلى متحف، لم يُبدِ أي اعتراض يذكر على هذا القرار، ورحبت به قواعده بروح إيجابية، مما يعني أن أغلبية ساحقة من الشعب التركي، تتجاوز %80 تدعم هذا القرار.
وعلى الصعيد العالمي جاءت أكثر ردود الأفعال حدة تجاه هذا القرار من اليونان وبعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة؛ إلا إن قضية آيا صوفيا هي أولًا شأن تركي، ولا يحق لأحد التدخل فيها، ثانيًا هذا القرار لم يؤدِّ لتحويل آيا صوفيا من كنيسة إلى مسجد اليوم؛ بل على العكس من ذلك نص على فتح هذا المبنى الذي ظل مسجدا لمدة 567 عام، قبل أن يُجمَّد هذا الوضع لمدة 86 عامًا، كما إنّ فتح آيا صوفيا مجددا أمام المصلين لن يؤدي للمساس بأي معالم مقدسة لدى المسيحيين؛ بل ستُحفظ كما هي.
لقد كان تحويل آيا صوفيا إلى متحف قبل 86 عامًا خطأ جسيمًا، خلَّف حالة من الحزن الشديد لدى المسلمين، واليوم صُحِّح هذا الخطأ؛ لكن في المقابل تعرّض المسلمون إلى الإبادة الجماعية في أوروبا، خاصة في إسبانيا والبلقان، بعد أن عاشوا هناك وأسسوا حضارات لمدة 700 عام، لتُدمَّر في النهاية مساجدهم أو تتحول إلى كنائس، ولم نسمع أي صوت يندد بذلك.
وفي سالونيك وأثينا في اليونان أين عاش المسلمون في الماضي بأعداد كبيرة؟ إذ لا يمكنك أن تجد اليوم أي مسجد، كل تلك المباني القديمة باتت اليوم مهجورة أو تقرع فيها أجراس الكنيسة، أما السلطان محمد الفاتح في المقابل، فإنه باستثناء آيا صوفيا لم يسمح بالمساس بأي كنيسة أخرى في مدينة إسطنبول التي غزاها؛ بل إنه وضع باقي كنائس المدينة تحت حمايته، واليوم لا يختلف الأمر كثيرا، إذ إن هناك العديد من الكنائس القديمة والجديدة في تركيا، والدولة نفسها أخذت على عاتقها مهمة ترميم بعض الكنائس التاريخية.
أما الولايات المتحدة التي أقدمت مؤخرًا على إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، والتي لا تُظهر أي احترام للأماكن المقدسة والتراث المشترك بين الأديان، فإنها لا يحق لها التعليق على عملية استعادة مبنى تحول إلى مسجد قبل 567 عامًا، وتركيا لا تلقي بالًا لهذه الأصوات.
ومن الممكن تفهم ردود الأفعال من أوروبا والمسيحيين، إذ إن هذا الحدث بالنسبة لهم حتى إن كان جزءًا من الماضي، فإنه على الصعيد النفسي يحيي لديهم الشعور بالهزيمة؛ لكن من غير الممكن تفهّم بعض ما نشرته وسائل الإعلام العربية -خاصة الإمارات ومصر والسعودية- في الحقيقة من المؤسف جدًا أن تكون وسائل الإعلام في هذه البلدان منقطعة عن شعوبها، التي شاهدناها تتفاعل بكل حماس وفرح مع هذا الحدث، إن وسائل الإعلام في هذه البلدان عبّرت عن حزنها بعد إعادة فتح مسجد آيا صوفيا، وتعمّدت تسييس المسألة والزج باسم أردوغان.
ومن المفارقات المضحكة والمبكية في آن واحد، أنّ هذه الأطراف لم ترفع صوتها ضد ضمّ إسرائيل للمسجد المقدَّس عند المسلمين، والاضطهاد الذي يتعرض الفلسطينيون، والآن سارعت إلى تقديم الدروس حول العدالة في الإسلام والتذكير بالأصول المسيحية لمعلَم آيا صوفيا.
أولئك الذين شاهدوا المسجد الأقصى تحت الاحتلال الإسرائيلي، وتعرّضه للتدمير لبناء الهيكل خطوة بعد خطوة، يناقشون الآن قرارًا اتخذه السلطان محمد الفاتح قبل 567 عامًا، ويتساءلون هل يمكن تحويل الكنائس إلى مساجد؟ وتحت أي شروط؟ والواقع أن هذا النقاش خِيض فيه بما فيه الكفاية عام 1453.
إن تركيا والرئيس أردوغان والقضاء من خلال هذا القرار، لم يحولوا كنيسة إلى مسجد؛ بل أعادوا فتح مبنى ظل يُستخدم كمسجد على مدى 567 عامًا، قبل أن يتحوّل إلى متحف لفترة قصيرة، ومن خلال هذه الخطوة فإنّ الرئيس التركي أنهى حالة الجمود التي غرق فيها العالم الإسلامي، وكسر الأغلال التي كانت تكبِّله، وأعلن الاستقلال عن الغرب.
لذا فعوضًا عن انتقاد تركيا، يجب على الدول العربية أن تستفيد من هذا الدرس، ونحن ندعوكم أنتم أيضًا إلى كسر الأغلال، إذا جربتم مع شعوبكم الحرية والاستقلال والسلام فإنَّ الأوضاع ستكون أفضل بكثير.
وسوم: العدد887