النخب السياسية لم تكن على مستوى الثورة
النخب السياسية
لم تكن على مستوى الثورة
الياس خوري
الثورة انفجرت فينا ولم يفجّرها أحد، صحيح ان النخب السياسية لم تكن على مستوى الثورة، وصحيح ان الذين تلاعبوا بهذه النخب من أمراء النفط والغاز جعلوا من القيادة ممسحة تعبق برائحة الفشل، وصحيح أن «حلفاء الشعب السوري»، لم يكونوا سوى كذبة كبيرة من دول لا ترى في بلادنا إلا مستعمرات سابقة.
وصحيح أيضا أن الثورة تلاشت وحولها داعش والنصرة إلى كابوس جديد.
كل ذلك صحيح اليوم، وكل ذلك يدعو إلى اليأس.
لكن بعد ان يئسنا، وبعدما عشنا ما بعد اليأس، نكتشف أن الشعب السوري، شعب اللاجئين والمشردين، الشعب الذي ذبحوه ومثّلوا به. هذا الشعب يمتلك وحده سر البقاء.
إنه لا يمتلك ذاكرة قيم الحرية والكرامة الإنسانية فقط، بل هو تجسيد حي لهذه القيم.
وغدا عندما سينزاح هذا الكابوس، ويكتشف اللاعبون الإقليميون والدوليون ان لعبتهم الوحشية وصراعاتهم على سوريا ستقودهم إلى لا مكان بل وستنقلب عليهم، عندها لن يكون هناك سوى صوت واحد مصنوع من ملايين الحناجر التي تصرخ بالحرية.
عندها لن ينتصر سوى من كان أمينا على القيم الأخلاقية والإنسانية، لأن قيم العدالة والحــرية والمساواة وحدها تستطيع ان تبلسم الجراح، جاعلة من ذاكرة الحرية تتويجا لذاكرة الألم.
سوريا: ذاكرة الحرية/ ذاكرة الألم
إلى رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي في ذكرى انطلاقة الثورة السورية، كل شيء يدعونا إلى اليأس، لكننا لن نيأس. نعيش في الإحباط، نتجرع الألم، ظلال الموتى تحتل عيوننا، لكننا لن نيأس.
ثورة أطفال درعا، ومئات الألوف الذين احتلوا الشوارع والساحات ينزفون دما وحرية، صورة غياث مطر، وشهادة باسل الخطيب خلف الكاميرا في حمص، صور التعذيب التي بثها النظام على مواقع التواصل، أسماء أيام الثورة، من صالح العلي إلى الجمعة العظيمة إلى وحدة الشعب السوري… صراخ المتظاهرين في الجنود بأن لا يطلقوا النار على شعبهم، شجاعة الشعب الذي صرخ بأن «الشعب السوري ما بينذل»، التنسيقيات التي صنعت لوحة الحلم. الوحش يدوس على الناس مؤنبا وهو يسخر منهم: «بدكم حرية»؟! والناس تموت لكنها لا تتنازل عن حريتها وكرامتها.
السوريات والسوريون الذين احتلوا الشوارع وذهبوا إلى مواجهة الموت وهم يعلمون أن الموت ينتظرهم، هؤلاء هم ذاكرة سوريا وهؤلاء هم من غرس المعاني النبيلة التي لا يستطيع أحد محوها.
«بدكم حرية»، يصرخ رجل المخابرات في أطفال سوريا ورجالها ونسائها، يقتلهم بالتعذيب وبالرصاص وبالقذائف وبالأسلحة الكيميائية وبالبراميل المتفجرة. لكنه لا يسمع منهم وهم يحتضرون وينزحون ويتشردون سوى عبارة واحدة: «الشعب السوري ما بينذل».
عبارة واحدة تلخص انفجار الحرية في حمص وحماة ودير الزور وحلب والشام، عبارة كتبها أطفال درعا وهم يلهون بحريتهم التي استعادوها على حيطان مدينتهم، فصارت كل حيطان العالم صدىً لصدى أصواتهم، وصار موت حمزة الخطيب اسما آخر لطفولة الحرية وكرامة الإنسان المهدورة.
هذه الصور هي ذاكرتنا التي لن تقدر عليها ذاكرة الجريمة والفشل والتعثر والانهيار الأخلاقي التي صنعها الصراع الإقليمي على سوريا من أجل ان يمنع سوريا من ان تستعيد صوتها. انها ذاكرتنا في مواجهة تعثر المعارضة/ المعارضات وانهياراتها تحت ضربات الأوهام من المجلس الوطني إلى الائتلاف إلى آخر ما لا آخر له. إنها سوريا المرسومة على وجه الألم والدمار الوحشي.
مع بداية العام الخامس، من الانفجار السوري الكبير، فإن التهديد الأكبر الذي يواجه الشعب السوري اليوم، هو حرب ذاكرة الانحطاط والوحشية على ذاكرة الحلم والأمل.
منذ البداية تعمّد النظام، عبر لجوئه إلى الحل العسكري الشامل، أن يمحو المظاهرات بدماء المتظاهرين، وأن يدفن الانتفاضة الشعبية تحت ركام القرى والمدن المهدمة. الموت كممحاة للذاكرة، وتراكم المآسي كممحاة للمأساة. وكان الاستبداد يخبئ مفاجأة تماسك الآلة العسكرية التي صنعها، وقدرة مافيات المخابرات التي رعاها على الصمود. ونجح في ذلك، وكان ارتماؤه غير المشروط في أحضان حليفه الروسي، وخضوعه الكامل لاستراتيجية حليفه الإيراني، أحد أسباب نجاحه.
نجاحه الأكبر كان قراره بتحويل كل سوريا إلى حماة، حيث كتب الطاغية الأب تاريخ نظامه الوحشي بالدم. الابن تعلم الأمثولة وقرر تدمير كل سوريا على رؤوس الناس، والانتقام من الشعب عبر تحويله إلى لاجئين ونازحين وشحاذين. مستعيدا سيرة المغول والتتار الذين بنوا أسوار تسلطهم من جماجم البشر.
لكن الشعب السوري الذي خرج إلى شوارع الحرية قرر أن لا يعود إلى السجن. شعب بلا قيادة سياسية، محاصر بقمع المستبد وحلفائه من الميليشيات الطائفية، ويختنق بمجموعة من «الحلفاء» الذين يسعون إلى قـــــتل روحــــه، شعب يحاصره «اصدقاؤه» كما يحاصره النظام، وجد نفسه ينزلق تدريجيا إلى موقع الضحية المطلقة.
نظام بربري من جهة وداعش وأخواته من جهة أخرى. هذا يقتل وذاك يحرق ويصلب ويبيد، وكلاهما يقتاتان من دم الشعب السوري. النظام سرق الحلم من عيون الأطفال المطفأة، وداعش وأخواته سرق الثورة من الناس وحولها إلى وجه آخر لبشاعة الاستبداد وانحطاطه.
اليوم تقف ذاكرة الثورة في مواجهة ذاكرة الجريمة.
لن نيأس لأننا رأينا.
لن ننسى لأننا لا نستطيع خيانة أصواتنا.
لن نخضع للذين يمحون الجريمة بالجريمة، ولا للذين يريدون كسر حياتنا، عبر دعوتنا إلى الاستسلام للطغاة.
الثورة انفجرت فينا ولم يفجّرها أحد، صحيح ان النخب السياسية لم تكن على مستوى الثورة، وصحيح ان الذين تلاعبوا بهذه النخب من أمراء النفط والغاز جعلوا من القيادة ممسحة تعبق برائحة الفشل، وصحيح أن «حلفاء الشعب السوري»، لم يكونوا سوى كذبة كبيرة من دول لا ترى في بلادنا إلا مستعمرات سابقة.
وصحيح أيضا أن الثورة تلاشت وحولها داعش والنصرة إلى كابوس جديد.
كل ذلك صحيح اليوم، وكل ذلك يدعو إلى اليأس.
لكن بعد ان يئسنا، وبعدما عشنا ما بعد اليأس، نكتشف أن الشعب السوري، شعب اللاجئين والمشردين، الشعب الذي ذبحوه ومثّلوا به. هذا الشعب يمتلك وحده سر البقاء.
إنه لا يمتلك ذاكرة قيم الحرية والكرامة الإنسانية فقط، بل هو تجسيد حي لهذه القيم.
وغدا عندما سينزاح هذا الكابوس، ويكتشف اللاعبون الإقليميون والدوليون ان لعبتهم الوحشية وصراعاتهم على سوريا ستقودهم إلى لا مكان بل وستنقلب عليهم، عندها لن يكون هناك سوى صوت واحد مصنوع من ملايين الحناجر التي تصرخ بالحرية.
عندها لن ينتصر سوى من كان أمينا على القيم الأخلاقية والإنسانية، لأن قيم العدالة والحــرية والمساواة وحدها تستطيع ان تبلسم الجراح، جاعلة من ذاكرة الحرية تتويجا لذاكرة الألم.