في عهد السيسي… الشعب والشعب الآخر

سمع الملك الفارسي بهرام صوت البُوم، فسأل أحد رجال الدين عن فهم حديثها، فعرَّضَ للملك بظلمه وجوْره بحق العباد، قائلا له: إن بومًا ذكرًا يروم الزواج من بومٍ أنثى، وأنها اشترطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام «بهرام» فقبل بالشرط، وقال لها: إن دامت أيام الملك أقطعتُك ألف قرية من الخراب.

نقل ابن خلدون في تاريخه هذه القصة عن المسعودي، في الفصل الثالث والأربعين، الذي عنون له بعبارة: «الظلم مؤذن بخراب العمران» والسبب في ذلك أن العدوان على الناس في أموالهم، ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، ومع الاستبداد وتوزيع الحاكم المستبد الثروات على المقربين منه، المحيطين بكرسيه من ذوي المصالح، فإن الناس من أصحاب الطبقات المتوسطة والدنيا، تنقبض أيديهم عن السعي والإنتاج والإعمار، فيضعف الاقتصاد ثم ينهار، وهذا ما يحدث تحديدا مع الشعب المصري في عهد قائد الانقلاب.

فعندما نتكلم عن الظلم، حتمًا يرد ذكر المصريين، الذين تجرعوا الظلم قديمًا وحديثا، مصر هي البلد الوحيد الذي ذكر فيه «السجن» في القرآن الكريم، وكما قال فارس المنابر الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله من قبل: «لو وزع الظلم إلى مئة جزء لكان في مصر وحدها تسعة وتسعون جزءًا، ومرّ الجزء بالدنيا ثم قضى ليله في مصر». هذا البلد الذي أحمل ذكرياتي معه في قلبي، قضيت حينا من الدهر على أرضه، وأكلت مع أبنائه الكادحين في طبق واحد، رأيت كيف يضحكون ويلقون الفكاهات، وهم في غمرة الأحزان، شاركت ثُوَّارَه الأفراح في عُرْس الربيع العربي، وتجرعتُ المُرّ معهم عندما استُلِبت منهم ثورتهم، وحَكَمَهُم مَن لا يرقب فيهم إلّاً ولا ذمّة، فكيف لا أكتب عنهم وعمّن ظلمهم؟ ولا أعلم حاكما مارس الظلم في أبشع صوره على الشعب المصري مثلما فعل السيسي، لقد سطا على أصوات المصريين الذين اختاروا رئيسهم بمحض حريتهم، وارتكب بحق من عارضه حيال هذا الجرم، مذبحة لا تزال الدماء التي أريقت فيها جاريةً تحمل معها اللعنات. وأعظم ما ارتكبه الرجل من جريمة بحق الشعب المصري هو فصْم لُحمته، وتقسيمه إلى معسكرين، اتخذ أحدهما ظهيرا له يروج لسياساته، ويدعمه في جميع الاستحقاقات الانتخابية.

يُقدم الزعيم شرائح هذا الشعب للمجتمع الدولي على أنها الشعب بأسره، يفوضونه بقتل إخوانهم، ويرقصون له على أبواب اللجان، رجالا ونساء، ويعينون سحرة الإعلام في أخذ لقطات التأييد. أما المعسكر الآخر، فأبناؤه هم الذين يُحمّلهم السيسي كل كوارث العالم، فطالما أنهم معارضون لحكمه وسياساته، فهم الإرهابيون دعاة الدمار وأعداء الاستقرار، فالسجون إذن مفتوحة، والبنادق عامرة بالرصاص، وعلى المتضرر اللجوء إلى المنفى.

صار المشهد المألوف في مصر هو هدم المنازل، حتى صارت آلاف الأسر الذين لا يجدون مأوى لهم، في العراء

وعلى طريقة المثل الشعبي المصري «اذبح لها القطة في ليلة عُرسها» ابتدأ عهده بالدماء قبل اعتلاء العرش، وأراد أن يكون فض الاعتصام في رابعة على هذا النحو البشع، فقط من أجل ذبح القطة في ليلة العرس، من أجل أن يعلم الجميع أنه لا ثورة بعد اليوم، وأن الجنرال هو ربهم الأعلى، ما يريهم إلا ما يرى وما يهديهم إلا سبيل الرشاد.

وعَد فما أوفى، أوهمهم أنه لا أطماع له في السلطة، فإذا به يتحدث عن نبوءاته في أن يحوز الملك والسؤدد، وبين عشية وضحاها، نشهد عملا دراميا جديدا بطله السيسي، الذي ينادي به القوم لينقذ مصر، ويكمل العمل الذي ابتدأه بتخليص مصر من الإخوان المخربين، ويمضي بالمصريين كما مضى موسى بقومه. طلب من المصريين مهلة سنة حتى يروا الإنجازات والنقلة البعيدة في حياتهم، فإذا بالسنوات تتعاقب والشعب المقهور ينزل في دركات الفقر والقهر واستلاب الأمن الغذائي والنفسي وغياب الحريات.

«وبكره تشوفوا مصر» كلمته الشهيرة التي سحر بها آذان المصريين، وأغرقهم في الأماني، حتى اعتبر قسم كبير منهم هذه الوعود حُجّة قائمة بذاتها، وأن كل من يشكك فيها، إنما هو عميل قطري أو تركي أو إخواني يريد الخراب لمصر. فكيف أصبح المصريون بعد الوعود البراقة؟

لم يعد بإمكانهم السؤال عن المليارات الخليجية التي جاءت تمويلا لزعيم الانقلاب، ولم يروا منها أثرًا، ولم يعد بمقدورهم السؤال عن أحلام الثراء التي ستعود عليهم من تفريعة قناة السويس، التي ستنقلهم إلى الازدهار، ثم اكتشفوا أن زعيمهم المبجل كان يريد من المشروع رفع معنوياتهم. ولا يمكنهم الاعتراض على وضع الاقتصاد المصري في يد الجيش وابتلاعه، وإلا أصبحوا أعداء مصر وجيشها.

منذ سنوات أطلق أحد الفنانين المؤيدين المطبلين للانقلاب أغنية قال فيها مهاجمًا المعارضين: (احنا شعب وانتو شعب لينا رب وليكو رب) وبالفعل صار هناك شعب السيسي، وهو مكون من الجيش الذي أغرقه زعيم الانقلاب بالنِّعم، يُربي فيهم مفهوم أنهم ملوك الدولة والدولة لهم، ولا حكم سوى حكم العسكر، وغيّر عقيدته القتالية من عداء الصهاينة والمحتلين إلى عداء المعارضين. والمكوّن الثاني هو أجهزة الأمن والشرطة، التي عادت لتنتقم من الشعب المصري، جراء ثورته التي وجدت الشرطي نفسه خلالها منزوع الهيبة. ثم القضاء الشامخ الذي يوزع الأحكام الجائرة بكرة وعشيا، غير آبهٍ بتلك المسؤولية العظيمة، وغير مكترث أصحابه بأن يكونوا من قضاة النار. ثم الإعلام وما أدراك ما الإعلام، منابر من نار، وأبواق لم يُر لها مثلٌ في التدليس وقلب الحقائق، إلى الحد الذي غدا رجال هذه المؤسسة لا يهتمون كثيرا للحبكة الدرامية في دَجَلهم، فحتى لو أشارت إليهم كل سبّابة في العالم بالكذب، فإنهم ماضون في التطبيل للزعيم الملهم. ثم كبار رجال الأعمال، الذين وضعوا أيديهم على الحصة المتبقية من مقدرات الشعب، ويتحكمون في الأسواق، ويدهسون الصغار، ويستوردون الأغذية الفاسدة، ويحتكرون السوق، ويمتهنون مهنة تهريب الآثار المصرية، ويضعون أيديهم على أراضي الدولة بمباركة رسمية.

وينقص هذا (الكوكتيل) حتما عمائم تُسبح بحمد النظام، وتزعم المعجزات لهذا الزعيم المخلص، ولما كان شيخ الأزهر قد نأى بنفسه عن هذا الدور، دقّ وزير الأوقاف صدره قائلا: هاأنذا، وترك الكلام في الشريعة وأصبح بوقا سياسيا، وإذا تكلم في الدين قيل: يا ليته سكت، فلا يتكلم إلا بطبل، ولا يفتي إلا بمزمور، يقوم بعمل هامان على أكمل وجه، هذا هو شعب السيسي.

أما الشعب الآخر، فهم المعارضون والبسطاء، والطبقات المتوسطة التي انقرضت، ولم تجد لها مكانا إلا على الهوامش، هم الكادحون الذين يكابدون من أجل البقاء، هؤلاء هم الشعب الآخر، الذين ينال منهم كل قانون يُسن، وينهش في لحومهم كل قرار رئاسي، لا يكادون يفيقون من صدمة لقرار جائر، حتى يُصبَّحوا بغيره، فغدا الناس كأنهم سكارى وما هم بسكارى، لكنه الاستبداد الذي لا يرحمهم.

هذا الشعب الآخر، هو المتضرر من السياسة الاقتصادية للنظام القائمة على الجِباية، نعم قائمة على الجباية، فالزعيم الذي لا يمتلك رؤية اقتصادية، يعتمد على التفنن في كيفية تحصيل الأموال من الناس، أمرهم بـ»صبّح على مصر بجنيه» وملء صندوق «تحيا مصر» ويمضي في رفع الدعم حتى شكا إليّ بعض إخوتي المصريين، من أن فواتير الكهرباء والغاز والمياه صارت تحتاج إلى عمل إضافي لتسديدها، حتى رغيف الخبز المدعم الذي يعتمد عليه الفقير، يقل وزنه إلى ثلاثة أرباع تقريبا، وهو ما يعني محاربة الفقراء حتى في القوت. وكل فترة يُفاجأ هذا الشعب الآخر بفرض ضرائب جديدة تضيف أعباء جديدة، بينما شعب السيسي لا تمثل له هذه القضايا شيئا. وبينما كان الشعب الآخر يموت أبناؤه بسبب جائحة كورونا لنقص المعدات والتجهيزات الطبية، كان الزعيم رقيق القلب يجود بها على الصين وإيطاليا والولايات المتحدة.

هل تعرفون تلك الشخصية الضعيفة التي تنال الأذى من غيرها، فتبحث عن أقرب ضعيف لتصليه من نار غضبها؟ هكذا فعل السيسي، ففي الوقت الذي وجّهت له إثيوبيا صفعة قوية ذات صوت فاضح وقامت رغما عنه بملء خزان سد النهضة، والضرب بالمفاوضات عرض الحائط، بدلا من أن يتخذ قرارات صارمة حيال هذه الأزمة، التي تهدد الشعب المصري بالعطش، وتهدد أراضيه الزراعية، بل ثروته السمكية، اتخذ قرارات غاشمة تجاه المصريين، وتعقّب البنايات المخالفة، وفرض جبايات جديدة لتصحيح الأوضاع فيه إجحاف مبين يفوق طاقة المصريين.

صار المشهد المألوف في مصر هو هدم المنازل، حتى صارت آلاف الأسر، الذين لا يجدون مأوى لهم، في العراء، فالزعيم الملهم لم يسنّ هذا التشريع ليطال المخالفين لاحقا، بل مرّره بأثر رجعي. فماذا يفعل رب عائلة عاش لسنوات في بيت لا يملك غيره بعد هذه القوانين؟ هل هذه القوانين تسن من أجل إذلال الشعب؟ أليست القوانين من أجل الإنسان؟ أقل ما يوصف به هذا النظام بأنه نظام شبيحة بلطجية.

يضيق المقام لمزيد من سرد جرائم الانقلاب بحق الشعب الآخر، لكن ماذا نقول حيال رجل يبيع بلده من أجل رضا أمريكا والكيان الصهيوني، بل ويتجرأ على الثقافة الدينية لهذا الشعب، بل يقوم بهدم مساجده تحت مزاعم التنمية، فالسؤال: هل السيسي لا يدرك حقا حجم الأزمات التي يغرق فيها الشعب؟ ألا يخاف من هذه السياسات الجائرة أن يثور عليه المصريون؟

لا أرى إلا أن السيسي يدرك بالفعل أنه حوّل حياة المصريين، أو الشعب الآخر إلى جحيم، لكنه يدرك تماما أنه امتلك زمام الأمور، وأرهب الشعب وأظهر له أنيابه، ووضع مؤسسات الدولة الصلبة في جيب سترته، ويحظى بمؤازرة صهيونية وأمريكية وأوروبية وإماراتية وسعودية، تجعله مطمئن البال حيال عرشه، طالما أنه قد اعتصم بحبل هذه القوى وتماهى مع أطماعها، وهم الذين يوفرون له الغطاء المناسب على جرائمه، وطالما أنه لا يعبث بمصالحهم، غير أنه يغفل عن نهايات المستبدين، التي ليس منها مناص، ويتجاهل أن أحزان هذا الشعب قنبلة موقوتة، ربما يطول الوقت اللازم لانفجارها، إلا أنها إذا فعلت فلن تبقي ولن تذر، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 894