الكمامة من إجراء وقائي ضد جائحة كورونا إلى وسيلة للتفاخر والتباهي والإشهار وغير ذلك من المعلن والخفي من الأغراض
حلت جائحة كورونا بالمعمور فجأة ودون سابق إنذار ، فجعلت الناس في حيرة من أمرهم يترقبون مع مطلع كل يوم أخبار جديدة عنها ، وبدأ الخوف يسيطر عليهم لمّا قضى أوائل ضحاياها ، وتأكدوا أن الأمر جد، فاستحكم الخوف على القلوب ، وكلما ازداد عدد المصابين ازداد خوفهم حتى بلغ درجة الفوبيا.
ومما رافق الجائحة الكمامة ـ بكسر الكاف ـ في اللسان العربي ، وقبل أن تفرضها الجائحة على الناس حذر العدوى، كان تعريفها في ثقافتنا العربية أنها ما يوضع على أنوف الدواب لمنعها من العض أو الأكل أو لوقايتها من أذى الذباب ، ولم يخطر ببال أحد أنه سيأتي على الناس يوم تكمم بها أفواههم وأنوفهم لوقايتهم من فيروس جائحة قيل عنه أول الأمر أنه يعلق بالأرض ثم قيل بعد ذلك أن يطيرفي الجو على حد قول أهل الخبرة والاختصاص الذين يسلم لهم فيما يقولون.
ولقد عهد الناس من قبل أن أهل الطب والجراحة هم من كانوا يضعون الكمامة لأنها من مقتضيات مهنة التمريض وقاية لهم ولمرضاهم .
وأول أمر الكمامة أنها كانت مفقودة ،وغير متوفرة حتى أن الناس احتاروا في كيفية الحصول عليها فهرعوا في بداية الأمر إلى طلبها في الصيدليات باعتبارها منتوجا طبيا أو صيدليا إلا أن الصيدليات علقت على واجهاتها ملصقات أعلنت فيها أنها لا تتوفر عليها ، وراجت أخبار عن تسويقها في الأسواق السوداء بأثمان مثيرة للدهشة والاستغراب ،ولكن سرعان ما بدأت المتاجر توزعها قبل الصيدليات بأقل من درهم ثم صارت منتوجا صيدليا بعد ذلك بأكثر من درهم ثم بدأت أنواعها وألونها تتعدد حتى صارت أشكالها مما يعتمد في التمييز بين فئات المجتمع الهش منها والصلب ، وجرت أحاديث عما يمنع منها الفيروس وعما لا يجدي معه نفعا منها ، وشوهد بعض الناس يضعون منها أشكالا تنتهي بما يشبه المصفاة ،وهي توحي بأنها منتوج طبي أكثر من غيرها مما لا مصفاة له.
ولم يمر وقت طويل حتى بدأت عملية حياكة الكمامات على أوسع نطاق بمختلف الألوان ، ومختلف أنواع القماش الجيد والرديء، وبدأ التندر عند الناس ببعض أشكالها خصوصا عند الفئات الهشة التي كانت تتقنع بكل ما يتوفر لديها من ثوب أو قماش لا يعنيها أن يقيها من خطر فيروس الجائحة بقدر ما تخشى من دفع الغرامة المالية المفروضة على من لا يضعها مخلا بإجراء الوقاية من تفشي عدوى الوباء خصوصا وقد انتقلت كلفة اقتناء الكمامة من أقل من درهم إلى ثلاثمائة درهم كغرامة يغرم بها من لا كمامة له .
وما زالت الكمامة تمر من طور إلى آخر حتى انتهت من وسيلة وقاية من عدوى الجائحة إلى وسيلة للزينة وللمباهاة والتفاخر بين الناس وإلى وسيلة إشهار أيضا ، فبدأ التمييز بين كمامة الذكر وكمامة الأنثى تتحكم في ذلك أشكال وألوان وعلامات . واختلفت كمامات الصبية عن كمامات الصبايا أيضا أحجاما وأشكالا وألوانا . وتفنن الناس بعد ذلك في اختيار علامات ورسوم على الكمامات ، فجعلها بعضهم علما أو شعارا أو وطنيا محمولا فوق الأنوف ، وجعلها آخرون تحمل شعارا أو رمزا من رموز أندية رياضية كروية محلية أو عالمية ، وتعددت الرموز والرسوم والشعارات والعبارات المرسومة عليها بما فيها عبارة الحب والغرام " أحبك " باللغة الإنجليزية ، ولا ندري من المقصود بها هل الجائحة أم المحبوب ؟ وإن كان المقصود على الأرجح هو هذا الأخير وقد وفرت الكمامة للعشاق طريقة سهلة للتعبير عن حب بعضه بعضا دون أن يعلم بذلك الكواشح والعدى والموبق على حد قول الشاعر :
ولا يستبعد أن يتخذ منها مسوقو البضائع المختلفة وسيلة إشهار لتسويق بضائعهم إن لم يكن بعضهم قد أقدم على ذلك بالفعل . وقد تصير أيضا وسيلة دعاية انتخابية توزع مجانا على المواطنين طمعا في الحصول على أصواتهم ،فتسد مسد القبعات التي كانت توزع من قبل .ومن يدري قد تصير الكمامة شعارا سياسيا أو طائفيا أو عرقيا ...
والمنتظر أن أشكال وألوان وأغراض الكمامة ستتطور مع مرور الأيام حتى تفقد وظيفة الوقاية من الجائحة ، وتصير وسيلة من وسائل الزينة يفاخر ويتباهى بها ، وقد بدأت بالفعل المباهاة بها حتى أن بعض المنبهرين بالثقافة الفرنسية يستنكفون عن تسميتها كمامة فهي عندهم " بافيت " ليتميزوا بذلك عن سواد وعامة الناس ، وهؤلاء عيونهم على ما يلبس من أنواع "البافيت" في فرنسا وغيرها من بلاد الغرب ليسارعوا إلى اقتنائها ، ويكون لهم فضل وقصب السبق في نقلها أو إدخالها إلى أرض الوطن.
أما عشاق كرة القدم من الشباب فعيونهم على ما يتقنع به نجوم ومشاهير كرة القدم من كمامات لتقليدهم في ذلك إعجابا بهم كما قلدوهم في حلاقة الشعر ، وفي ارتداء أقمصة عليها أسماؤهم .
ولا يستبعد أن يقلد نجوم الفن والسينما أيضا فيما يتقنعون به من كمامات . ولا يستبعد أيضا أن تدخل الكمامات عالم الأزياء ،فتضاف إلى العروض فوق خشبات العرض المشهودة كما أضيفت من قبل الحقائب المحمولة على الأكتاف والمصاحبة للأزياء لتزيد من إثارتها والترغيب في اقتنائها .
ومن الملاحظ أن الكمامات تعددت طرق اقتنائها ، فبدأ الأمر باقتناء يعبر عن التضجر والضيق منها حيث توضع على الأذقان تعبيرا عن ذلك، لكنه سرعان ما تدخلت النخوة في طرق الاقتناء، فصار بالبعض يعلقها على الأذن كما كانت تعلق الأقلام ، والبعض الآخر يضعها على ذراعه كما يفعل عمداء لاعبي كرة القدم ، ومنهم من يضعها موضع السوار أوساعة اليد ، ولا يضعها أغلبهم حيث يجب أن توضع إلا من يخشى الجائحة حق الخشية ، وأما من استفحل خوفه منها فتطور إلى فوبيا، فلا تغادر أنفه في حل ولا في ترحال . ومن غريب ما يشاهد أن بعض هؤلاء يمارسون رياضة المشي بغرض التطبيب ، وهي على أنوفهم وأفواههم ، ولا ندري كيف يستنشقون الهواء وهم يتنفسون الصعداء؟
وأخيرا وفي انتظار ما ستؤول إليه الكمامة من استعمالات متعددة خارج إطار الاستعمال الوقائي من الجائحة ، نأمل ألا تنتهي إلى ما لا يحمد عقباه من الاستعمالات ، وأن ينتهي استعمالها برحيل قريب للجائحة إن شاء الله تعالى.
وسوم: العدد 895