فكرة العدل من القرون الوسطى حتى العصور الحديثة
[ باختصار من كتاب نظرية العدل في الفكر الأوروبي والفكر الإسلامي لجمال البنا ]
إنها لإحدى مآسي العدالة الأوروبية أن يقول "برتلمي سانت هيلير" في مقدمته للترجمة العربية لكتاب "السياسة" لأرسطو، "من شيشرون إلى ميكيافيلي لا بد من اجتياز خمسة عشر قرناً دون أن نجد مؤلفاً واحداً عن السياسة". فيا لها من رحلة طويلة شاقة، وما أتعس وأسوأ ما تنتهي إليه!. ميكيافيلي الذي جعل مسوخ آل بورجيا ملائكة، وأنه "يدرس بمقياس غاية في الضبط، ما هو السخاء والتبذير والقسوة والرحمة وحسن النية والمكر. ويقرّ الكذب والغدر والسم والاغتيال كلما كانت هذه الوسائل العنيفة نافعة. والغرض الوحيد هو البقاء في السلطة بأي ثمن وأن النجاح يسوّغ كل انتهاك للحرمات".
ما نرى أنه يستحق وقفة، ما بين شيشرون وميكيافيلي في الفكر السياسي الأوروبي، هو أثر دخول المسيحية، وكيف واجهت هذه الأفكار العنصرية التي تقوم على الاستمتاع من ناحية، واستغلال الإنسان من ناحية أخرى.
لقد اعتقد آباء الكنيسة أنهم توصلوا إلى الحل المسيحي لهذه المعضلة، بالتفرقة بين الطبيعة البشرية يوم خلقها الله، وبين ما وصلت إليه بعد سقوط آدم في الخطيئة. ففي حالتها الأولى الفطرية كانت قوى الروح في حالة توافق تام، وكانت شهوات الإنسان خاضعة لإرادته، وكانت إرادته خاضعة لعقله، وكان عقله خاضعاً لربه. ولو بقي الإنسان في هذه الحالة البريئة لما احتاج إلى حكومة أو ملكية فردية، ولكن الإنسان سقط في الخطيئة، فأدى سقوطه إلى اضطراب كيانه كله فقد انحلت شهواته من عُقُلها وأخضعت إرادته لسلطانها الغاشم، وتحت تأثيرها أصبح لا يرضيه اتباع التوجيه الإلهي. وهكذا حل محل النظام الذي كان قائماً في النفس الإنسانية ومحل الطاعة التي كانت منهج الإنسان في حياته حالة أخرى مناقضة، حالة انطلاق من قيود القانون والنظام. واحتشد في عقل الإنسان الطمع وشهوة القوة وضعف الإرادة والجهل فكان لها في حياته الفردية أسوأ الآثار فقد ذهبت بما كان يتمتع به من هدوء النفس، وأدخلته في حالة صراع نفسي متصل.
وهنا اضطربت الحياة الاجتماعية واحتاجت إلى الضبط فوجدت قواعد الملكية الفردية والسلطة المدنية، وصارت القوة هي الحَكَم الوحيد الذي يفصل في الموقف، فإذا وقعت الحرب فلا بد من تسليم المغلوب بحقوق الغالب، بل ينقلب المغلوب رقيقاً بيد الغالب.
وهكذا كان آباء الكنيسة يُعْطُون المسوّغات لهذه المؤسسات، فهي عندهم، نتيجة السقوط والخطيئة. وعندما لم يطمئن أتباع هذه الديانة إلى هذا التسويغ هجروا المجتمع وأوَوْا إلى الأديرة... ووقع الفلاحون السذّج تحت الاستغلال فثاروا في القرن الرابع عشر في انجلترا، وفي القرن السادس في ألمانيا، وقُمعت كلتا الثورتين قمعاً شديداً.
أما في الإسلام فقد جاء العدل قريناً للحق، فالعدل هو الحق مطبّقاً في الواقع، والحق هو العدل في مفهومه العُلْوي، ومصدر الحق والعدل هو الله سبحانه: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان). {سورة الشورى: 17}. (إن الله يأمرُ بالعدل والإحسان). {سورة النحل: 90}.
وسوم: العدد 897