صناعة العطور والإرها
في "قصتي مع الشعر" يروي الشاعر الدمشقي الرقيق "نزار قباني" " أن والده كان يملك مصنعاً للحلوى، وكان في الوقت نفسه مشاركاً ناشطاً في الثورة ضد الاحتلال الفرنسي لبلاده، وكان الشاعر يعجب من هذه الازدواجية التي تجمع بين الرقة والقوة في شخصية أبيه، لكنه كان يفخر بهذه الشخصية التي وجدها من أبرز سمات "الشامي" المجبول على الطيبة، المسكون بالثورة .
وقد توقعنا من الفرنسي "صانع العطور والتنوير" الذي عاشر الشام سنوات طويلة أن يتطبع بطبيعة الشامي "صانع الحلوى والثورة والحرية" لكن "الطبع يغلب التطبع" فما إن غادر الفرنسي الشام حتى رجع إلى أصله وانقلب على عطوره وتنويره؛ فصار صانعاً للإرهاب !
وقد بدأت هذه الانتكاسة المؤسفة في فيلم بطله الممثل الفرنسي الشهير "ألان ديلون" وهو فيلم شاهدته في ثمانينات القرن الماضي، ولم اهتم باسم الفيلم في حينه لأني لم أتوقع أن يكون هو المعلم الاول لصناعة الإرهاب في العالم !
@ قصة الفيلم ..
تدور أحداث الفيلم حول انتشار عصابات عنيفة في إحدى المدن، وقد بلغ من سطوة هذه العصابات درجة كادت تخرج عن سيطرة رجال الأمن، لاسيما وأن القانون يكبل أيدي أجهزة الأمن فتمنع قتل عناصر العصابات إلا بعد اعتقالهم ومحاكمتهم !
وخوفاً من عمدة المدينة أن تخرج الأمور عن السيطرة؛ أمر بعقد اجتماع طارئ لكبار ضباطه ومستشاريه، بحثاً عن حل، وبعد مناقشات طويلة شاقة، تفتق عقل واحد من الضباط المخضرمين عن فكرة شيطانية وجدت هوى في نفس العمدة، خلاصتها .. تسليح مجموعات من عناصر الأمن وإطلاقهم في المدينة في صورة عصابات مناوئة للعصابات الحقيقية، مع ضمان عدم مساءلة مجموعات الأمن عن أفعالها، مما جعل هذه المجموعات الأمنية تنطلق في المدينة كالكلاب المسعورة تقتل بلا رحمة، وتصفي كل من تظن خروجه على النظام !
وبهذه الحيلة الإرهابية أمكن الالتفاف على القضاء والقانون؛ وبدا الأمر كأنه تصفيات بين العصابات التي تخرب البلد، وظهرت أجهزة الأمن والحكومة في مظهر البراءة !
وقد كان النظام الجزائري في تسعينات القرن الماضي أول من التقط هذه الفكرة الشيطانية، ربما بسبب القرب الجغرافي والثقافي من فرنسا، فقد التقط هذا النظام الفكرة وانطلق على الفور بتنفيذها للقضاء على المعارضة الإسلامية التي تمثلها (جبهة الإنقاذ الإسلامية) بقيادة (عباسي مدني) مما أغرق الجزائر في بحر من الدماء لأكثر من عشر سنوات عرفت باسم العشرية السوداء (1990 – 2000) فقد جند النظام الجزائري جماعات من الأمن وأطلقهم في صورة حركات إسلامية إرهابية راحت تقتل وتدمر بلا رحمة، وتولى الإعلام الرسمي ربط هذا الإرهاب بالإسلام والإسلاميين، فكانت جريمة النظام جريمتين : الأولى قتل المواطنين بلا تمييز، والثانية إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام والإسلاميين !
هكذا أصبح الإرهاب المصطنع وصفة فرنسية جاهزة لكل نظام دكتاتوري، يبتغي الخلاص من معارضيه، وهذا ما وجدناه يطبق بحذافيره في سوريا للقضاء على "الربيع السوري" الذي انطلق في عام 2011، وما زلنا نرى تطبيقات مماثلة لهذا الإرهاب في بقية البلدان التي تبحث عن ربيعها الضائع !
وبهذا العمل السينمائي المفخخ طمست فرنسا فصولاً عظيمة من فصول ثورتها وتنويرها وعطورها، ولم تتوقف المسألة عند أبطال السينما، بل انتقلت إلى السياسة، فظهر بطل سياسي جديد بنسخة أشد قبحاً من أبطال السينما، هو الرئيس "ماكرون" الذي فتح باباً للإرهاب الداخلي بين الفرنسيين أنفسهم، فراح يروج لدعوى "الانفصالية الإسلامية"في اتهام فاضح للمسلمين الفرنسيين بأنهم باتوا يشكلون خطراً على هويّة فرنسا وأمنها واستقرارها !؟
ولم يمض وقت طويل حتى افتضح نية الرئيس وهدفه الحقيقي من هذه التهمة، فقد جاء على لسان مراقبين فرنسيين أن الرئيس يحاول بهذا "الفلم" إيهام الناخب الفرنسي بوجود «عدو داخلي» يجب الخلاص منه، وأنه هو البطل المرشح لهذه المهمة ؟!
@ التاريخ يعيد نفسه :
فعند عودتنا إلى التاريخ وجدنا دعوى الرئيس ما هي إلا إحياء للنزعة الانفصالية التي نادى بها بعض المفكرين الفرنسيين مثل "ألِكسي دو توكفيل" و "جول فيري" و "أرنست رونان" إبان حروب التوسع الفرنسي الاستعماري في القرن التاسع عشر، حيث ظهر خطاب فرنسي حاقد ضد الإسلام، وجرى توظيفه في تلك الحقبة لنفي شرعية المقاومة التي أبداها العالم العربي والإسلامي لذلك التوسع الغاشم !
وإذا كانت وظيفة ذلك الخطاب مفهومة يومذاك، فليس له اليوم سوى وظيفة انتهازية واحدة، هي الحسابات الانتخابية الرخيصة !
وسوم: العدد 899