من فقه الدعوة، أصلُه سيهديه!!
بينَ العلّامةِ الشيخ محمّد الحامد وَ الطبيب الشاعر وجيه الباروديّ
- العلّامة *الشيخ محمّد الحامد* - رحمه الله [ 1910 - 1969 م ] - غنيٌّ عن التعريف علماً و وَرَعاً و و هيبةً و موقفاً و حالاً، و هو أحدُ أبرز علماء سورية الشام تأثيراً ، و شيخُ حماةَ و إمامُها و عالمها - و ما أكثرَ العلماءَ العاملين الرّبّانيين في حماة و الشام عموماً يومذاك - ....و هو الذي لا يستطيعُ الناظرُ أنْ يُحدَّ النظرَ إليه و يديمه لجلالِه و وقارِ هيبتِه ، و له مصنّفات عديدة و رسائل جريئة ، و قد أُلِّفيتْ فيه و في علمه و ورعه المؤلَّفات .
- الطبيب الشاعر *الدكتور وجيه الباروديّ* رحمه الله [ 1906 - 1996 م ] - صاحب اليد الرحيمة البيضاء و الأفضال الجليلة الكثيرة على جميع أبناء مدينته حماة لا سيما فقراؤها و دراويشها ، و هو الطبيب الحكيم سابر أغوار نفوس المرضى ممن رزقه اللهُ توفيقاً حتى غدا مقصدَ الناس و حديثَ المجالس ، و قد جمعَ إلى الطبِّ الشعرَ فكانَ الشاعر المتفننُ العفويّ الذي شغف بحبّ الجمالِ و فتنَ بحماة و سحرها و صوَّرَ يومياته في عيادته و مواقفه اليومية مع مرضاه شعراً لطيفاً ماتعاً بنبرة الحكيم الفيلسوف في رونقٍ من الفكاهة الراقية ، و كان الجامع المشترك في كلا التوجهين هو نفس سامية طيبة كريمة بأصيلِ منبتِها و هو القائل :
و كنتُ من فرطِ إشفاقي و بي ألمٌ *
بالوردِ أرشقُ مَن بالنارِ يرشُقُني
? *الموقف* :
كانَ العلّامة الشيخ محمد الحامد يترددُ أسبوعياً إلى جامع السلطان ؛ الجامعِ الأشهر وسط مدينة حماة في شارع ابن رشد حيثُ كانت له دروسٌ متتابعة يلقيها خلال الأسبوع و يحضرها جمعٌ غفيرٌ من أبناء حماة و من جميع شرائحها و مستوياتها الثقافية و العلمية ، و كانت عيادة الدكتور وجيه البارودي قريبة آنذاك من جامع السلطان حيثُ يلقي الشيخ دروسَه ... و لذلك كثيراً ما صادفَ الشيخ الحامد الدكتور وجيه أمام عيادتِه فيقفُ مسلّماً عليه بابتسامة شيخ جليل وقور و كان بالمقابل يقفُ الدكتور وجيه احتراماً لهيبة الشيخ و وقاره و يبادله ابتسامة الودّ راداً التحيةَ و السلامَ ... و كان الشيخ الحامد يبتدرُ الدكتور وجيه بتذكيره بصنائع معروفه مع الناسِ و الفقراء أبناء مدينته ؛ معزِّزاً و مقدّراً و مثبِّتاُ لجانبِ الخيريّة في نفس الدكتور وجيه فكان يقول له :
" يا دكتور وجيه تصلني عنك أخبار طيّبة .... الناس مسرورة جداً منك و تتحدثُ عن أفضالك معها و طيبة قلبك و جبرك لنفوس الضعفاء و الفقراء ، و تدعو لك دعاءً صادقاً بالخير ..
و قد حدثني فلان عن معروفك معه ... و حدثني آخر عن تطبيبك له - أو لأمه أو أحد أفراد عائلته - و لم تأخذ شيئاً .. و حدثني آخرون أنّك تعطيهم الدواء أيضاً مجاناً .... "
هكذا في كلِّ لقاء يراه فيه ثمّ يودعه بالدعاء و يمضي الشيخ إلى درسه أو بيته بعد انتهائه ... و في كل مرةٍ تسنحُ بينهما يحدّثه عن خيره و معروفه و سخاء نفسه بمواقف يسردُها الشيخُ على مسمَع الدكتور وجيه ...
و كان كثيرٌ من مريدي الشيخ الذين يرافقونه إلى الدروس يرَون ذلك و يتعجبون من موقف الشيخ و الاحترامِ المتبادل بين هذين الرجلَين العلَمين فتجرأَ عددٌ من المقربين مخاطبين الشيخ الحامد قائلين :
- إنّ الدكتور وجيه يحترمُك و يُجِلُّك و يسمعُ منك ...فلماذا لا تحدِّثُه في شروده عسى أنْ يمنَّ اللهَ بهدايته على يديكم شيخنا ، و خصوصاً أنّ الدكتور وجيه يقدر لكم جاهكم و هو على جانب من الخير و المعروف و الأدب ...
فكان ردّ الشيخ الحامد - رحمه الله - ردّاً يجسِّدُ مدى حكمتِه و بُعد نظرِه و تواضعه :
" إنّ الدكتور وجيه رجل قارئ متبحرٌ في تصانيف الكتب يعني يعرف كل شي سأكلمه به ، فهو ليس بحاجة لشخص مثل محمد الحامد حتى يعلِّمَه .. لذلك لا أرى في دعوته إلّا تذكيره بخيره و معروفه مع الناس و تعزيز هذا الجانب في نفسه ، و الدعاء له في ظهر الغيب... *و أنا على يقين بأنَّ أصلَه الكريم سَيهديه و سيعودُ بفضلِ اللهِ إلى جادة الهداية و الصلاح* .... "
- و صدقَ يقينُ الشيخ فقد عاد الدكتور وجيه تائباً عابداً ساعياً في دروبِ الخيرِ و خرجَ إلى بلاد الحرَمَين الشريفين حاجَّاً متضرّعاً لائذاً بجنابِ الله واثقاً برحمته ... ملازماً بيتَ الله في صلواته الخمسِ ؛ و شاء اللهُ أنْ يفقدَ بصره في أُخرياتِ حياتِه فأوكلَ أمرَ إيصاله إلى جامع الشيخ علوان - القريب من سكنه حيث كان يصلي - لشخص يدفعُ له راتباً شهرياً لقاء ذلك العمل فيأخذه المسجدَ و يعودُ به المنزل و ذلك في وقت كلِّ صلاة من الأوقات الخمس .
رحم اللهُ العلامة الحامد ما أرحمَ قلبه و ما أبعدَ نظرَه و ما أحكمَ فعله و ما أجلَّ نهجَه في دعوته ...
و رحم اللهُ طبيبَ حماة و شاعرَها أبا الفقراء الدكتور وجيه البارودي ما أعمقَ احترامَه و ما أسمى مرادَه و ما أجلّ همتَه فقد ترفّعَ عن المال و المادة و أخلصَ فكانت خاتمة الخير بفضلِ اللهِ و رحمته ... هذه الخاتمة التي يحاول كثير من مرضى القلوب طمسها و عدم نشرها .... و نختم بأبياتٍ قالها الدكتور وجيه إبانَ توبته واثقاً برحمة الله حَسَنَ الظنِّ به :
- أُصلِّي لا أملُّ و في صلاتي *
دعاءٌ يمحقُ الذنبَ الرديَّا
- يُمهِّدُ لي صراطاً مستقيماً *
و ينفخُ في العمى فأرى جليّا
- و لا موتاً أخافُ لأنَّ ربِّي *
سَيلقاني بِجَنَّتِه حَفِيّا
وسوم: العدد 900