رجال القمّة.. ومظاهر القوّة
رجال القمة غير رجال السفح.. هذا هو المعنى الذي قصده الشابّي، شاعر تونس العظيم في هذا البيت المبدع:
ومَن يتهيّب صعود الجبال يعش أبدَ الدهر بين الحفر
رجال القمة لا يوجد سقف لطموحاتهم، ولا أفق لآمالهم وأحلامهم.. هم رجال قيم ومبادئ، أصحاب مروءة وشهامة، تلمس فيهم روحاً وثّابة وفروسية نادرة.. هم عند كلمتهم لا يتزحزحون عنها، ولهم مواقفهم التي تكشف عن مواطن القوة وجوانب العظمة في شخصياتهم.. لا يهتزّون عند الشدائد والمحن، ولا ينحنون أمام العواصف الهوجاء.. يعلمون أن الصعود إلى القمة يحتاج همماً عالية وإرادة صلبة وعزماً فولاذياً، وأن الطريق إليها وعر وصعب وشاق، فضلاً عن أنه محفوف بالمخاطر.. لذلك فهو يتطلب استعدادات خاصة، وخبرات عملية، ومعرفة بالدروب، وقدرة كبيرة على التحمل، وشجاعة الاقتحام، وصبراً وإصراراً ومثابرة، وارتباطاً بالهدف، واستعلاءً على جواذب المادة... وهكذا.
في قراءتي لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، كنتُ أمرُّ على واقعة مشهورة نعرفها جميعاً، ولا أتوقف عندها طويلاً، وهي واقعة مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم صحابته في إعداد الطعام أثناء إحدى السفريات.. كان على القوم أن يذبحوا شاة.. قال واحد من الصحابة: أنا عليّ ذبحها.. قال ثان: وأنا عليّ سلخها.. قال ثالث: وأنا عليّ طهيها.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا عليّ جمع الحطب.. أقول: كنت أمرّ على هذه القصة، فلا أجد معنى في ذهني أكثر من معنى المشاركة، وهو معنى جميل وجليل بلا شك، خاصة من شخصية لها هذا القدر من الجلال والكمال...
إنه اختار أشقّ الأعمال وأكثرها نصباً وتعباً.. وهكذا القيادة والمسؤولية.. ومن ثم لا تتصور أنك حين تصبح قائداً أو مسؤولاً أنك سوف تجلس على كرسي وثير وحولك الأتباع والأعوان، ثم تُصدر إليهم أوامرك.. القيادة إذاً أمانة ومسؤولية وعبء وتبعة وحقوق ومواقف.
إن العمائر الضخمة والأبراج العالية تتطلب أساسات قوية وأعمدة صلبة، حتى تتمكن من الثبات أمام الرياح العاتية.
إن الصعود إلى القمة يستلزم رجالاً يفضّلون الموت في عزة وكرامة على الحياة في ذلة ومهانة.. إن الناس جميعاً يموتون، منهم من يعيش قليلاً، لكنه يصنع تاريخاً ويُحيي أمة، ومنهم من يعيش طويلاً، لكنه لا يصنع شيئاً لأمته ولا حتى لنفسه.. الصنف الأول تلهج الألسن بذكره على مدار التاريخ، أما الثاني فلا يذكره أحد.
إذا كنت صاحب حق فناضل من أجله، إذ لا يضيع حق وراءه مُطالب.. واعلم أن الحق يحتاج إلى قوة لتصل إليه وتحميه وتحافظ عليه..
أول مظاهر القوة أن تكون صادقاً مع الله، حتى تكون صادقاً مع نفسك وصادقاً مع الآخرين.. فذلك يُكسبك مهابة واحتراماً وقدرة على التأثير في الآخرين..
ثاني مظاهر القوة الثبات على هذا الحق الذي تعتقده، فلا تتغير أو تتلون، ولا تتنازل أو تتراجع، مهما طالك من أذى أو لحقك من إهانة..
وثالثها ألا تكون لك رغبة أو حاجة في منصب أو مال أو جاه أو أي لعاعة من لعاعات الدنيا، حتى لا تباع أو تُشترى أو تُستأنس أو تُروَّض أو تحتوى، وإياك ونقاط ضعفك، إذ من خلالها يتسلل خصومك، فيضيع الحق الذي تبحث عنه وتناضل من أجله..
ورابعها الاستعداد للتضحية، إذ ليس من السهل أن تصل إلى هدفك دون أن تفقد شيئاً في الطريق.. قد يكلفك طلب الحق مالاً أو وقتاً أو جهداً أو حتى حرية.. ومن الملاحظ أنه إذا كان الحق الذي تَنْشُده عزيزاً، كانت التضحية من أجله عظيمة..
وخامسها الجماعة، فهذه تُعينك وتشدُّ من أزرك وتقف إلى جوارك وتحمل همك وتشاركك مسيرتك...
لنفترض جدلاً أنك لم تصل إلى الحق الذي تتغياه.. فهل خسرت شيئاً؟ أقول: كلّا.. يكفي أنك تضرب المثل والنموذج لغيرك، للأجيال التي سوف تأتي من بعدك.. وحينما يرى الناس منك ذلك يقوى فيهم الأمل ويتعاظم لديهم الشعور بالعزة والقوة.. إن الناس في حاجة إلى مُثُل عليا يسيرون على هداها وفي ركابها.. ثم إن البشرية إذا خلت من هذه النماذج العليا فلا قيمة لها... وبقدر ما تكون هذه النماذج موجودة، يعظم أمر التاريخ، وفي النهاية ضع في حسبانك أنك تبني تاريخاً، تُضيء مشعلاً، تعبّد طريقاً.
وسوم: العدد 904