السجن اليهودي .. جان دانيال ..
La Prison juive
ذراعا بذراع وشبرا بشبر إلى جحر الضب
وشددوا فشدد الله عليهم
أيها المسلمون ...
لا تبنوا جدران سجنكم ، بلبنات وهمكم ، كما بنى الذين من قبلكم ..
والكلام في هذا المقال عن المسلمين وإلى المسلمين ، وليس عن اليهود ولا هو إليهم ..
ويظن بعضُ الناس أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من قبلكم ذراعا بذراع ، وشبرا بشبر حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم إليه " وهو حديث صحيح ، مخصص بالشاردين والمتفلتين والشاردات والمتفلتات من أبناء وبنات الإسلام . وطالما قرعنا بمثل هذا الحديث خطيب على منبره ، ولا يدري أن الأخطر مما تفعله " مميلة مائلة " هو أن يكون الخطيب نفسه ممن قال رسول الله صلى عليه وسلم فيهم " شددوا فشدد الله عليهم "
والتقوى المدعاة الظاهرة كانت هي الستار الظاهر لسؤال بني إسرائيل عن البقرة : ما هي .. ما لونها .. ما هي ؟؟؟
والتحدي الأكبر في حياة المسلمين اليوم أن يستطيع عاقل منهم أن يجمع أقوال من يسمون " علماء الأمة " مقدما حسن الظن فيهم جميعا . من غير نبذ ولا توهين ولا تهوين .
وإني لأفتح عيني حين أفتحها .. على كثير ولكن لا أرى أحدا
فكيف نجمع إذن كلام النُصيف إلى كلام الثُليث إلى كلام الرُّبيع إلى كلام الخُميس إلى كلام السُّديس .. وكلهم يبدأ كلامه باسم الله والحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله .. وتحت هذا الاستهلال البديع يتم تسويق في كثير من الأحيان الدم والميتة ولحم الخنزير ...!!
وبأبسط من هذا التعبير أعيد؛ وتحت هذا الاستهلال الكريم يمزج السمك باللبن بالتمر الهندي ، ولا أعطي لنفسي الحق أن أقول من هو المخطئ من هؤلاء الفوضويين ومن هو المصيب؛ وإنما أقول بات الجميع ممثلا للمصيبة التي حلت بالأمة أجمعين ..حتى صرنا في فتنة ولا أبا بكر لها !!
ذكرني الواقع الذي نعيش ، نحن المسلمين نحن السوريين ، بخلاصة كتاب صدر بالفرنسية ، في سحابة القرن العشرين / وتوفي كتابه منذ أشهر ، عنوانه "السجن اليهودي" . وكاتبه الصحفي اليهودي الجزائري الفرنسي جان دانيال .. ينصح قومه ويرثي لحالهم
وصف جان دانيال – والذي كان مستشارا لبورقيبة والذي عزّى فيه يوم مات في شباط الماضي بن تبون نفسه - بعض أزمة يهود العالم أجمع، بأنها نتيجة ما جنت أيدي اليهود على أنفسهم ..
ويرى جان دانيال وهو مفكر إنساني وغير معاد للسامية ، وإنما مشفق على اليهود واليهودية أن الشعوب اليهودية ( ولفظ الشعوب من اختياره وعدد يهود العالم 15 مليون إنسان ) يرى جان دانيال أن الشعوب اليهودية تعيش انفصاما ذاتيا بين إيمانها بعُقَد الاصطفاء والتفوق – شعب الله المختار – التي تصلها بالخالق ، وبين واقع الدولة -إسرائيل- التي تعتبرها هبة إلهية ؛ وإن كانت قد حولتها إلى دولة احتلال قاسية تمارس كغيرها من الدول قتل النساء والأطفال ، وتدمير السكان والبيوت.
ويرى دانيال أن اليهود استمروا في حبس أنفسهم في سجن حقيقي هو سجن الادعاء ، ادعاء التميز والتفوق وأنهم الأخير والأفضل عند الله، ولذا يجب أن يحتلوا المرتبة نفسها عند الناس. ومن هنا فقد التحفوا عباءة الدولة القومية الدينية المقدسة واحتموا برفع شعار المظلومية والاستهداف ..
ويضيف جان دانيال
وغدا اليهود حتى العلمانيين واللادينيين منهم أسرى سجن صغير تسوره جدران من الأساطير الكهنوتية ، والعقائد التلمودية ، التي تسمع الكثير منهم يسخرون منها ، ثم يحتمون بها ، ويدافعون عنها ، ويتخندقون حولها ، ويشتقون خطابهم منها ، ويقتبسون رموزهم منها ، ويؤسسون مشروعاتهم ودعاياتهم السياسية من أدبياتها ..
يؤكد جان دانيال أن اليهود المتوزعين حول العالم أصبحوا مشدودين جميعا إلى واقع جغرافي اسمه إسرائيل ، وعلى يهود العالم أجمع أن يعيشوا تطلعات ومخاوف وهواجس هذا الواقع ، وأن يلبوها جميعا ولو على حساب مصالحهم ونمط حياتهم كأفراد أو كتجمعات ، أي جالية يهودية حول العالم عليها في أي معركة انتخابية أن تنتحب النائب الأصلح لدولة إسرائيل ، وليس لمصالحها الذاتية ..!!
في حديث جان دانيال إلى قومه حدثهم عن سجنهم الكبير - الصغير ، سجنهم في فضاء أساطيرهم الكهنوتية أو التلمودية ، وسجنهم في فضاء هذه الجغرافيا الصغيرة التي سموها " دولة إسرائيل " وعجب دانيال هذا كيف أن على اليهودي الأمريكي أو الفرنسي أو البريطاني أن يخوض معركته الانتخابية حيث يعيش لمصلحة إدارة السجن البعيد . رسالة جان دانيال إلى قومه لم تكن سياسية ، بل هي رسالة إنسانية في جل أبعادها تنهي إلى يهود العالم أن الحفاظ على الهوية إنما يكون بالتمسك بأسمى ما فيها ، وبتكسير كل أشكال " الغيتوات " الضيقة والانفتاح على الناس ..
وكنت عندما تابعت الرسالة استوقفتني ثم أجدني اليوم أمام مشهدنا الإسلامي والعربي بشكل خاص أتذكر بعض ما كتب دانيال ..
أتذكر بعض ما كتب دانيال عن الخرافات والأساطير والغيتوات وأنا أتابع بعض من كنا نأمل ونرجو وهم يعملون جاهدين ليحكموا الطوق حول الأعناق، على مستويات "الدين " الذي هو محور حياتنا ، ومستوى الفكر والثقافة ... يعجبني في الشريعة الإسلامية أنها أوصت بإكرام الميت بتعجيل الدفن ، ورفضت ثقافة التحنيط للتأبيد ..وما أقسى أن يخلط الناس بين الفقيه وبين الحنوطي !!
وبت أسمع وأرى ونحن في عصر أحوج ما نكون فيه إلى مد الجسور المتينة، الدعواتِ المتعالية إلى الانكفاء ، وراء الجدر القصيرة ، والتحيز في القرى الهشة ، التي يتصورها البعض محصنة. وإذا كنا قد نشأنا في عصر ننشد فيه ونحن أطفال : إلى الأمام .. إلى الأمام ، فقد غدت الدعوة الظاهرة اليوم إلى الوراء .. إلى الوراء .. وكلهم يعتقد أن أمسه خير من يومه ، وكم جادلوني وأنا أقول لهم : لا ...
لن يقودنا إلى جحر الضب فيما أظن شاردة هنا ، ولا متفلت هناك. و لن تدخلنا في جحر الضب اتباعا كلمة مجاملة ، ولا بسمة قسط وبر ..!!
وإنما سيفعل بنا ذلك فتوى فقيه ما يزال يعتقد أن الفتوى كلما كانت أشد قسوة جعلت منه أكثر دينا وعلما وورعا وأحوط في أمر الله ...وأدركت رجالا ونساء منذ عقود يعتقدون أن الدواء كلما كان أكثر مرارة كان أكثر جدارة بالشفاء ..
نحن أبناء حضارة نريد أن نكون امتدادا لها ، ولا نريد أن نعود أدراجنا لنستنسخها . جحر الضب الذي حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو هذا السجن الذي يبنيه حول أنفسهم الجاهلون والمتزمتون والقاصرون ..
أيها المسلمون احذروا جحر الضب الذي يقودكم إليه الغلاة والأدعياء والمتفيهقون والمتفيقهون ..
وسوم: العدد 909