طرائف لغويَّة
ـ درسٌ في أدب مجالسة الخلفاء ـ
{بين الشَّعبيِّ وعبد الملك بن مروان}
الشَّعبيُّ: هو عامر بن شراحيلَ، تابعيٌّ وفقيهٌ ومحدِّثٌ من السَّلَف، قال عنه
الذَّهبيُّ: كان إمامًا حافظًا فقيهًا متفنِّنًا ثبتًا مُتقنًا.
قال الشَّعبيُّ: دخلت على عبد الملك بن مروان فصادفته في سِرارٍ مع
بعض مَن يقرب منه، فوقفت ساعةً لا يرفع إليَّ طرفه، فقلت: يا أمير
المؤمنين، عامرٌ الشَّعبيُّ، فقال: لم نأذن لك حتَّى عرفنا اسمَكَ، فقلت: نقدةٌ
واللهِ من أمير المؤمنين، فلمَّا فرغ ممَّا كان فيه وأقبل على النَّاس، رأيت في
الجالسين رجلًا ذا رُواءٍ وهيئة لم أعرفه، فقلتُ مَن هذا يا أمير المؤمنين؟
قال: الخلفاء تَسألُ ولا تُسألُ، هذا الأخطل الشَّاعر، قلتُ في نفسي: هذه
أخرى.
قالَ: وخُضنا في الحديث، فمرَّ له شيْءٌ لمْ أعرفه، فقلتُ: أكتِبنيهِ يا أمير
المؤمنين، فقال: الخلفاء تَستكتِبُ ولا تُستكتَبُ، فقلت: هذه ثالثةٌ، وذهبتُ
لأقوم، فأشار إليَّ بالقعود، فقعدتُ حتَّى خفَّ مَن كان عنده، ثمَّ دعا
بالطَّعام، فقُدِّمتْ إليه المائدة، فرأيْتُ عليها صُحفةً فيها مُخٌّ، وكذا كانت
عادته أن يُقدَّم إليه المُخُّ قبل كلِّ شيْءٍ، فقلتُ: هذا يا أميرَ المؤمنين كما
قال الله جلَّ وعزَّ: "وجِفانٍ كالجَواب وقُدورٍ راسياتٍ" فقال يا شعبيُّ:
مازحتَ مَن لمْ يمازحكَ، فقلتُ: هذه ـ واللهِ ـ رابعة.
فلما فرغ من الطَّعام وقعد في مجلسه، واندفعنا في الحديث وذهبتُ لأتكلَّم،
فما ابتدأتُ بشيْءٍ من الحديث إلَّا استلبه منِّي، وربَّما زاد فيه على ما
عندي، ولا أنشدته شعرًا إلَّا فعلَ مثل ذلك، فغمَّني ذلك، وانكسر بالي له،
فما زلنا على ذلك بقيَّةَ نهارِنا، فلمَّا كان آخرُ وقتِنا التفتَ إليَّ فقال: يا
شعبيُّ قد ـ والله ـ تبيَّنتُ الكراهة في وجهك لما فعلتُ، وتدري أيُّ شيْءٍ
حملني على ذلك؟ قلتُ لا يا أمير المؤمنين. قال: لئلا تقول: لئِن فازوا
بالمُلْكِ أوَّلا لقد فزنا نحن بالعلم، فأردتُ أن أعرِّفك أنَّنا فزنا بالملك،
وشاركناك فيما أنتَ فيه، ثم أمر لي بمالٍ، فقمتُ من عنده وقد زللتُ أربعَ
زلَّات.
(مجالس العلماء للزَّجَّاجيِّ ص 160)
فتأمَّل يا رعاكَ الله هذا الدَّرسَ البليغَ في مجالسةِ الخلفاء، وإقرار العالم
الجليل بما ارتكب من زلَّاتٍ في حضرة الخليفة.
وسوم: العدد 912