من دون تحرير الأرض... أي «حريّة وكرامة» لفلسطين
نشرت «القدس العربي»، في 13/12/2020، خلاصة لندوة افتراضية نظّمها «ملتقى فلسطين» بعنوان «فلسطين معنى للحرية والكرامة والعدالة... لا تطبيع مع إسرائيل الاستعمارية الاستيطانية العنصرية... فلسطين قضيّتنا».
ويُبرز «ملتقى فلسطين» في عرضه لخلاصات الندوة ثلاثة موضوعات:
أ - «قضية فلسطين ليست مجرّد قضية أرض فقط، وإنّما هي قضية حرية وكرامة وعدالة». ب - «وهي قضية صراع مع الرواية التاريخية». ج - ثمة «صلة وثيقة بين إقامة إسرائيل ووجودها واستمرارها، وبين نظم الاستبداد (العربية)، وأن تلك النظم هي التي تعزّز وجود إسرائيل».
هذا، ولم ترد أيّة إشارة إلى أية مداخلة في الندوة. لذلك، فإنّ ما يلي من نقد للخلاصات أعلاه يحصرها باعتبارها رأي «ملتقى فلسطين» وليس رأي كلّ المتدخّلين.
أولاً: موضوع «قضية فلسطين ليست مجرّد قضيّة أرض فقط، وإنّما هي قضية حرية وكرامة وعدالة»
لا أيها الرفاق والرفيقات في «ملتقى فلسطين»، إنّ قضيّة فلسطين هي قضيّة أرض فلسطين أولاً وأخيراً؛ وفقط، كبيرة ومدويّة. بمعنى هل أرض فلسطين لشعب فلسطين، أم هي «أرض إسرائيل»؟ هل هي أرض اغتُصبت وما زالت مغتصبة، واقتلع ثلثا شعبها وأحلّ مكانهم كيان استيطاني صهيوني، واستولى على الأرض والقرى والمدن والبيوت (مفروشة). وإذا أُريد فوق ذلك من زيادة، فهي سعي هذا الكيان لاقتلاع من بقي من شعبها، واعتبارها كلّها (الأرض) ملكية حصرية خالصة له وليهود العالم بعامة.
فمِن أين جئتم باعتبارها، أيضاً، قضية الحرية والكرامة والعدالة، كأنّها قضية من قضايا الشعوب التي رزحت تحت الاستعمار القديم، أو ترزح تحت أنظمة استبدادية، لتصبح «قضية حرية وكرامة وعدالة». فنموذج الكيان الصهيوني لا يشبه نموذج الاستعمار الكولونيالي. لأنّ الرد على الاستعمار كان بالتحرّر الوطني والاستقلال بخروج قواته العسكرية المحتلّة، أو إلغاء المعاهدات الاستعمارية. كما أنّ مشكلة شعب فلسطين ليست كمشكلة شعب تحت نظام استبدادي لتصبح قضيته قضية حرية وكرامة وعدالة. فنحن أمام حالة إحلالية استيطانية اقتلعت ملايين الفلسطينيين من وطنهم، وادّعت فلسطين ملكية خالصة لها، وأقيم كيان غير شرعي فيها.
وحتى عند وصفه بالاستيطاني، يجب تمييزه عن حالات الاستيطان التي أصبحت من الماضي. فنحن أمام مشروع استيطاني يقوم على صفيح ساخن، وأمامه شعب يتضاعف عدداً كلّ عشرين عاماً، ومن ورائه الشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم. أي نحن أمام حالة استيطانية تتفاقم يوماً بعد يوم، ولم تصبح من الماضي. ولن تعرف الاستقرار والنسيان أبداً.
أما وصفه بالعنصرية، فيجب تمييز عنصريته جوهرياً عن عنصرية البيض الأميركيين ضدّ السود في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تداوى بالحرية وحقوق الإنسان والمساواة والعدالة. ولسنا أمام حالة استيطانية عنصرية كالتي عرفتها جنوب أفريقيا. وذلك مهما حاول البعض التشبيه بين النموذجين. فعنصرية جنوب أفريقيا أقامت نظاماً سياسياً (أبارتايد). ولم تخرج الشعب من وطنه، ولم تقتلع ثلثيه لتسكن بيوتهم وقراهم ومدنهم. فعنصرية الكيان الصهيوني ليست نظاماً، وإنما عنصرية اقتلاع وإحلال. ولهذا فالقوانين العنصرية التي أصدرها الكيان الصهيوني، وتشابهت بقوانين في نظام الأبارتايد الجنوب أفريقي، اختلف أمرها في فلسطين اختلافاً جذرياً. لأنّ الهدف من تلك القوانين في الكيان الصهيوني ليس إقامة نظام عنصري أبارتايد، وإنما التضييق على من تبقّى من الفلسطينيين لتهجيرهم (اقتلاعهم). أي الهدف هو الاقتلاع ولا يقصد منه التمييز والاستغلال والاستعباد والمساس بالكرامة، وإنما القصد هو: التهجير - الاقتلاع فقط. أما ما يمسّ الحرية والعدالة والكرامة، فمؤقّت إلى أن يتمّ التهجير.
إذا صحّ ما تقدم من حيث مطابقته لحقيقة المشروع الصهيوني والكيان الصهيوني، فعلى «ملتقى فلسطين» أن يصحّح فهمه للقضية الفلسطينية، كما هي بلا إضافات غريبة، وبلا «تعديل» يلقي ضباباً على حقيقة القضية الفلسطينية والمشروع الصهيوني.
وبالمناسبة، إنّ مخاطبة الرأي العام العالمي بحقيقة القضية الفلسطينية، أقوى وأفعل وأنجح، من أخذه إلى أطروحات يظنّ «ملتقى فلسطين» أنّه يفهمها ويتقبّلها أكثر من مواجهته بأشكال الاستيطان - الاقتلاعي - الإحلالي. وهذا النهج في مخاطبة الرأي العام بما يرضيه كان من أسباب التنازلات الفلسطينية والعربية التي قدّمت مجاناً، وتدحرجت لتنتهي إلى ما انتهت إليه. ولم تكسب رأياً عاماً.
ثانياً: الموضوع المتعلّق باعتبار القضية: «قضية صراع مع الرواية التاريخية». فلم يوضح أصحاب الملتقى كيف يقرأون «الرواية التاريخية». هل فلسطين لنا تاريخياً على مدى آلاف السنين، وفي مقدّمها في الألف وأربعمئة عام الأخيرة، وبصورة متواصلة. وعندئذٍ، لا خلاف.
على أنّ القضية هنا (الرواية التاريخية) حين يتناولها التاريخ هي، أيضاً، قضية أرض وشعب يملك الأرض، وليست قضية حرية وكرامة وعدالة. وذلك بالرغم ممّا تحمله الحرية والكرامة والعدالة من قِيَم عليا. ولكن في الرواية التاريخية قضية فلسطين قضية أرض وشعب.
ثالثاً: الموضوع المتعلّق بـ»الصلة الوثيقة بين إقامة إسرائيل ووجودها واستمرارها، وبين نُظم الاستبداد. وأن تلك النظم هي التي تعزّز وجود إسرائيل»، وفقاً لرأي «ملتقى فلسطين» في عرضه لخلاصات الندوة. وهنا يلاحظ:
1 - إنّ العلاقة الوثيقة، والتي هي فوق كلّ العلائق في «إقامة إسرائيل ووجودها واستمرارها» هي العلاقة بالغرب الاستعماري الإمبريالي، وعلى الخصوص بريطانيا ثم أميركا إلى اليوم، وليس بينها وبين نظم الاستبداد التي حُشرت حشراً هنا.
2 - ولأجل احترام التاريخ، يجب أن نلاحظ أنّ إقامة إسرائيل تمّت بوجود أنظمة عربية «شبه ديمقراطية» وكانت عندها برلمانات منتخبة. فكانت هذه «الإقامة» - النكبة سبباً للإطاحة بالبذور الأولى للديمقراطية في تلك الأنظمة التي فشلت في منع إقامتها واتُّهمت بالتواطؤ، ما وضع الحبّ في طاحونة الانقلابات العسكرية، فإقامة إسرائيل ووجودها أحبطا مسار الديمقراطية العربية تاريخياً. ولا يزالان، لمن يشاء، عائقيْن أمام الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية.
3 - إنّ إقامة الكيان الصهيوني ووجوده واستمراره، كل ذلك يرجع إلى ميزان قوى دولي فرضه ودعمه وحماه من جهة، وراح يتحكّم في معادلة السلاح وفي الحيلولة دون أن تتمكّن الدول العربية مجتمعة ومنفردة، من منع إقامة الكيان ووجوده واستمراره حتى يومنا هذا، من جهة أخرى.
4 - للأسف، إنّ غالبية النخب من مناهضي الاستبداد، ومن دعاة الديمقراطية والحرية والكرامة والعدالة، لا يحملون مشروع مقاومة «للكيان الصهيوني الاستعماري الاستيطاني العنصري»، ولا يقفون ضدّ التطبيع والتتبيع. وإذا اعتُبرت كلمة غالبية غير دقيقة، فميدان إعطاء أمثلة داحضة مفتوح. بل إنّ «ملتقى فلسطين» يجب أن يعتبر شاذاً على المستوى العربي، في جمعه بين موقف يدعو للحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية، ويدعو إلى موقف مقاوم لإسرائيل، وضدّ التطبيع والتتبيع.
خلاصة، وبعد
فقد أريدَ من هذا التحاور أن يُسهم في الوصول إلى فهم أصحّ وأعمق وأدقّ لسمات الكيان الصهيوني، كما هي، بلا إضافات غريبة. وذلك مثل خلطها بسمات الاستعمار الكولونيالي، أو الاستيطان العنصري الجنوب أفريقي وغيره، مع ضرورة التركيز على أنّ قضية فلسطين لمن؟ وعلى الوجود فيها من؟ إنها قضية أرض يجب تحريرها، وشعب يجب أن يعود مُقتلَعوهُ إلى ديارهم التي أُخرجوا منها. وهو صاحب الحقّ الحصريّ في تقرير مصيره في فلسطين من النهر إلى البحر. وعندئذ وبعدئذ يمكن أن تثار قضايا الحرية والعدالة وغيرها...
وسوم: العدد 913