كل إناء بالذي فيه ينضح مثل سائر يصدق على مرتادي ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي
لقد كان من المفروض أن يسهم تطور التكنولوجيا الرقمية في الرقي بعقول وأذواق من برتادون ويستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي إلا أن العكس هو الذي حصل مع شديد الأسف ، ذلك أن الغالب على هؤلاء هو التردي الفكري والأخلاقي ،وتشهد على ذلك الأعداد الهائلة لمن يتعاطون المنحط مما يسوق من مواد إعلامية عبر وسائل التواصل الاجتماعي . ولا يكاد التافه والساقط من الأخبار يظهر فيها حتى تتهافت على تعاطيه الكثرة الكاثرة ،فترفع من أرقام أو مؤشرات تعاطيه إلى مستويات قياسية بعضها غير مسبوق .
وعندما يقارن جيد ما يسوق عبر وسائل التواصل الاجتماعي بالرديء مما يتعاطاه مرتادوها ومستخدموها ،ترجح كفة الرداءة بكفة الجودة ، ويعكس ذلك رجحان الكثرة الكاثرة الميالة للعبث بالقلة القليلة الميالة للجد. ويصدق على الجميع المثل المشهور للشاعر سعد بن الصيفي التميمي المشهور بلقب حيص بيص ، وهو لقب لقب به حين رأى ذات يوم الناس في جلبة وفوضى فقال : " ما للناس في حيص بيص ؟" أما مثله المشهور فقد ورد في أبيات شعرية له قال فيها:
ملكنا فكان العفو منا سجية = فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما = غدونا عن الأسرى نعف ونصفح
وحسبكم هذا التفاوت بيننا = وكل إناء بالذي فيه ينضح
ولقد صار الشطر الأخير من هذه الأبيات مثلا سائرا يضرب تعبيرا عن اختلاف الناس مهمهم وتافههم حيث شبه هذا الشاعر الإنسان بإناء ينضح أو يرشح أي يطفح فيفيض ويسيل بما فيه ، لهذا فالمهم من الناس تغلب على ما يصدر عنه الأهمية ، بينما التافه منهم تغلب على ما يصدر عنه التفاهة . وقريب من هذا المعنى قول الشاعر المتنبي :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم = وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها = وتصغر في عين العظيم العظائم
فماذا يمكن أن يقال عن تهافت الكثرة الكاثرة على تعاطي المنحط والساقط من المواد الإعلامية المسوقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ؟ فهل بلغ الأمر بمن يتعاطونه هذا الحد من السخف ،والتفاهة، والإسفاف ، والابتذال، والتهتك ؟
وكم من نفيس المواد تسوقه وسائل التواصل الاجتماعي لا تقبل عليه إلا القلة القليلة من روادها بينما تتهافت الكثرة الكاثرة على الخسيس، الشيء الذي يعكس مدى سقم العقول وانحطاط الأذواق إلى أسفل درك .
ولاشك أن الراشح والناضح والطافح من السخيف المسوق عبر وسائل التواصل الاجتماعي يعكس بؤسا فكريا وثقافيا وأخلاقيا غير مسبوق . والمؤسف كما جاءت الإشارة في بداية هذا المقال أن هذا البؤس تزامن مع تطور تكنولوجي رقمي هائل ، وهذه مفارقة غريبة أو تناقض صارخ .
ولا شك أن الأمر وقد بلغ هذا الحد من البؤس يحتاج إلى تدارك تضطلع به نخبة نيرة من أهل العلم والفكر والخبرة لتحدث تغييرا في مسار تفشي رداءة المواد الإعلامية المسوقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي مقابل انحسار الجيد منها، الشيء الذي من شأنه أن يرقى بالعقول والأذواق ، ويخلصها من التردي في حمأة الانحطاط .
ولا نظن أن بعض الحلول التي تقترحها بعض الجهات من قبيل فرض الرقابة على الضحل مما يسوق عبر وسائل التواصل الاجتماعي أومتابعة من يتعاطونه ستؤتي أكلها وقد طفح كيل هذا الضحل المسوق واستفحل أمره ، بل نعتقد أن الريادة والقيادة الفكرية الموجهة لرواد وسائل التواصل الاجتماعي هي الكفيلة بالرفع من مستوياتهم في اختيار وتذوق الراقي من المواد الإعلامية . ولا يمكن أن تقع هذه النقلة إلا إذا نضح ورشح وطفح كيل الراقي بكيل الساقط ، علما بأن أكثر الفئات العمرية تضررا بهذا الساقط هي فئة الأغرار من الشباب المراهق الذي يمر بمرحلة عمرية في منتهى الدقة والخطورة والتي من شأنها أن تؤثر على حياتهم مستقبلا ، ولهذا لا بد من بذل ما في الوسع من جهد من أجل الأخذ بيد هذه الشريحة على وجه الخصوص ، وذلك من خلال تحويل وسائل التواصل الاجتماعي إلى أدوات تثقيفية وتربوية وتعليمية عوض ترك حبل هذه الفئة على غاربها في تعاطيها المنحرف حاليا لوسائل التواصل الاجتماعي ، وهو تعاط فيه من العفوية والسذاجة والبراءة ما يجعلها جديرة بالشفقة عوض العتاب واللوم الذي لن يزيدها إلا إدمانا على ما هي منغمسة فيه من رداءة المواد المسوقة رقميا.
وفي الأخير نأمل أن تنهد الهمم العالية من أهل الفكر للرقي بعقول وأذواق رواد وسائل التواصل الاجتماعي على اختلاف شرائحهم ومستوياتهم العمرية والثقافية حتى يصيروا أوان ناضحة بما يسر ويثلج الصدور ، والله ولي التوفيق.
وسوم: العدد 914