اختلاف الأخيار
ما يزال الاختلاف بين الناس قائماً، لاختلاف المدارك، وتعدد زوايا النظر، وتباين المصالح، وتصادم الأهواء، فضلاً عن تباين الخبرات والبيئات.
فبدءاً من أخطر الأمور وأعمقها، وأقصد قضية الإيمان بالله واليوم الآخر وما يتبعها... ووصولاً إلى المواقف السياسية الطارئة، نجد الناس لا يتفقون على اعتقاد واحد، أو موقف واحد.
وهذا الاختلاف يكون إذن تناقضاً بين حق وباطل، ويكون تبايناً بين صواب وخطأ، ويكون تفاوتاً في ترجيح أهمية عنصر واحد من بين عناصر شتى تكتنف مسألة ما... أو ترجيح أهمية عنصر آخر...
وقد علّمنا القرآن الكريم أن الاختلاف بين الناس قائم، لا ينفكُّ عنهم، لارتباطه بصفاتهم البشرية: )ولا يزالون مختلفين(.
وقد حفل القرآن بجدال المخالفين بالتي هي أحسن، ودعا إلى ذلك، وخاطب الكينونة البشرية من أقطارها جميعاً، من العقل والعاطفة، ومن المجرّدات والمحسوسات، حتى يقيم الحجة على الناس جميعاً )ليهلِك من هلك عن بيّنة، ويحيى من حَيَّ عن بيّنة(.
نقرأ هذا في قوله تعالى: )وجادلهم بالتي هي أحسن(.
وفي قوله تعالى: (يا صاحبي السجن، أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم. ما أنزل الله بها من سلطان...(.
وفي قوله تعالى: (أفي الله شك فاطرِ السماوات والأرض(.
والخلاف يحدث بين أبناء الدين الواحد والتوجه الواحد... فضلاً عن حدوثه بين أصحاب الديانات الشتى، والتوجهات المتشعبة.
وحين يحدث بين من يفرِّق بينهم الدين أو التوجه السياسي، فلا يُستغرب أن يتَّسم بالغلوّ والمهاترات والاتهامات، والرغبة في محو الآخر... وإن كان الإسلام قد أوصى باتباع التي هي أحسن، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
أما حين يحدث بين أبناء الدين الواحد، لا سيما بين دعاة الإسلام، فلابد أن يلتزم هؤلاء الدعاة بأدب الإسلام ظاهراً وباطناً، فلا يصل أحدهم إلى تسفيه رأي أخيه، واستفزازه، واتّهامه بنيّته وتوجّهه... ولا يُكنُّ له في نفسه إلا الحب والاحترام والتقدير.
وحين يحدث الخروج على أدب الإسلام من أبناء الإسلام، فهو الخروج الذي يجب على كل فرد أن يراجع نفسه فيه، ويعود فيه إلى المحجّة البيضاء، وصفاء النفس، ونقاء الضمير.
ونذكر ههنا أنموذجاً للخلاف في الصف الإسلامي، لنرى كيف يتم تجاوزه بروح إسلامية راقية. والمهم في هذا الأنموذج أنه تم بين النخبة من أخيار هذه الأمة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه هو الذي أشرف على تسوية الأمر بما يرضي الله. فلنعرض الحادثة كما وردت بالنص، ثم نعقّب عليها بكلمات يسيرة:
قال الأعمش: عن عمر بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تقولون في الأسارى؟" فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك، استبْقِهِم واستَتِبْهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك، فقَدّمْهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، أنت في واد كثير الحطب. فأضرم الوادي عليهم ناراً ثم أَلْقِهم فيه! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يردَّ عليهم شيئاً. ثم قام فدخل. فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس: يأخذ بقول عمر. وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله ليليّن قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مَثَلَكَ يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: "فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم" "وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قال: "إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم". وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال: "ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم". وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام قال: "رب لا تذَرْ على الأرض من الكافرين ديّاراً". أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق".
(رواه الإمام أحمد والترمذي، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه).
ماذا لو تكرر شبيه لهذا الموقف بين مسلمي اليوم؟! قد نجد عندئذ من يتهم أخاه المخالف له، بأنه يتنازل عن الثوابت، أو ينبطح، أو يتعاطف مع العدو، أو يتعامل معه... وينسى ما كان من ذلك العدو من بطش وتنكيل وحرب على الإسلام...
وبالمقابل قد نجد من يتهم أخاه بالتشدُّد والانغلاق وقِصَر النظر والتحجّر وضيق الأفق... وربما يتهمه بالمزاودة وتفويت الفرص...
أما القائد المعلّم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تفهَّم حُسْن الدافع لدى كل من المختلفين من أصحابه، ووجدَ له مثلاً من خيرة خلق الله، من نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
أفلا ينبغي أن يتخذ المسلمون اليوم دروساً من مثل هذا الموقف فيعذر بعضهم بعضاً فيما يختلفون، ويتفهم كل منهم موقف صاحبه، ثم يحاوره بالتي هي أحسن... حتى يصلوا –في ظل روح الأخوة في الله- إلى الموقف السليم المبارك؟!.
وفي رسالة لطيفة الحجم للدكتور يوسف القرضاوي، باسم "أدب الاختلاف" كلام طيب في هذا الشأن، ننقل منه هذه السطور، ونختم بها هذا المقال:
"... لا يزعجني أن يكون للصحوة الإسلامية المعاصرة أعداء من خارجها يتربصون ويكيدون لها، فهذا أمر منطقي اقتضته سنة التدافع بين الحق والباطل، والصراع بين الخير والشر، التي أقام الله عليها هذا الكون الذي نعيش فيه )وكذلك جعلنا لكل نبيٍّ عدُوّاً من المجرمين(. الفرقان: 31.
إنما الذي يزعجني ويؤرقني ويذيب قلبي حسرات، أن تُعادي الصحوة نفسها وأن يكون عدوها من داخلها، وأن يكون بأسها بينها.
لا يزعجني أن يكون في الصحوة مدارس أو فصائل أو جماعات، لكل منها منهجه في خدمة الإسلام وفقاً لتحديد الأهداف والوسائل والمراحل.
ولكن الذي يُدمي القلب حقاً أن يوجد بين الدعاة والعاملين من لا يقدر هذا الأمر حق قدره وأن يبذر بذور الفرقة أينما حلّ، وأن يبحث عن كل ما يوقد نيران الخلاف، ويورث العداوة والبغضاء، ويركز دائماً على مواضع الاختلاف، لا نقاط الاتفاق، وهو دائماً معجَب برأيه، مُزَكٍّ لنفسه وجماعته، متّهِم لغيره.
والحق أن الاختلاف في ذاته ليس خطراً، وخصوصاً في مسائل الفروع، إنما الخطر في التفرقة والتعادي الذي حذر الله ورسوله منه.
لهذا كانت الصحوة الإسلامية بمختلف اتجاهاتها ومدارسها في حاجة إلى وعي عميق بما نسميه "فقه الاختلاف".
وسوم: العدد 926