ما بعد الانتصار
إن ما حدث من انتفاضات في القدس وكل فلسطين خلال شهر رمضان المبارك، وما بعده، حتى إعلان وقف إطلاق النار في 21 أيار/ مايو 2021، وما تخللته من حرب هي الرابعة على مدى أحد عشر يوماً بين المقاومة والشعب في قطاع غزة؛ وبين جيش الكيان الصهيوني، كان انتصاراً من عدة أوجه.
ولعل أولها تراجع العدو عن السيطرة على ساحة باب العامود بتقسيمها إلى حواجز حديدية، حيث اضطر إلى رفعها، وهو ما حدث في تأجيله إخلاء (اقتلاع) فلسطينيين من سكان حي الشيخ جراح، والأهم فشل ما مورس، وأُعد له، من اقتحامات للمسجد الأقصى، وصولاً إلى فشل الجيش الصهيوني في الحرب الرابعة بتحقيق أي من أهدافه العسكرية والسياسية، عدا ما أحدثه من دمار وخسائر إنسانية في قطاع غزة. وقد عادت عليه، وستعود عليه في المستقبل، بخسائر معنوية هائلة لدى الرأي العام العالمي.
بكلمة، إن كل ذلك يعتبر نصراً مقدّراً في تاريخ الصراع العسكري والسياسي مع العدو، فكيف إذا أُضيف ما تحقق من وحدة ميدانية للشعب الفلسطيني من خلال الانتفاضات والمواجهات الشبابية الشعبية فوق الأرض الفلسطينية، شملت كل المدن والقرى والمخيمات، كما شملت مشاركة سياسية فاعلة من فلسطينيي الخارج؟
وهذا طوى مرحلة، لتبدأ مرحلة جديدة من موازين القوى، ومن الصراع. فنحن لسنا أمام انتصار حاسم كما في معركة اليرموك أو حطين، أو عين جالوت. فالكيان الصهيوني ما زال موجوداً في كل فلسطين، وما زال محتفظاً بقوته المسلحة، ومصمماً على المضيّ بمشروعه. وسيعدّ في المرحلة القادمة القريبة لإعادة الكرة، بهدف تحقيق ما فشل في تحقيقه هذه المرة.
على أن ما تحقق من انتصار عليه لم يحسم حرب الوجود التي شنها، ويشنها، على الشعب الفلسطيني، ولكن كان انتصاراً مقدّراً وأكيداً بلا شك، بمقاييس إحداث تغيير في ميزان القوى، في غاية الأهمية، بالنسبة إلى الحال الذي كان قبله، كما بالنسبة لما لو نفذ ما أقدم عليه في كل النقاط. ثم يجب أن يُضاف ما وصله الشعب الفلسطيني من وحدة ميدانية، في الانتفاض والمواجهة، وفي المقدمة وقوف صواريخ المقاومة نداً بالمواجهة العسكرية بإطلاق عدة آلاف من الصواريخ التي شملت فلسطين شمالاً ووسطاً وجنوباً، وقيل إن الباقي منها والمخفي أعظم.
من هنا، وبهذه المعايير في تحديد الانتصار يجب أن ترفع شارته، بقوّة وثقة وبلا اهتزاز، بعيداً عن خلطه بالمخاوف القادمة، أو بالتقزيم. وبهذا فليكن حالنا: اليوم نصر، وغداً أمر. ولنعشها لحظة فرح، وأهلاً وسهلاً بغدٍ، وما قد يكون فيه من مخاطر. فحتى من يكون تحت التعذيب يتنفس الصعداء إذا ما توقف التعذيب لبعض الوقت، ولو كان قصيراً، وحتى من يصعد على جبل، ويقطع نَفَسه، لا بد له من أن ينظر إلى أسفل ليفرح بما قد صعد، ويتنفس الصعداء وهو يرى ما ينتظره من صعود إلى القمة العنيدة.
والآن، عشنا أمس انتصاراً، وملأنا صدورنا بهوائه النقي. واليوم بدأ غد وبدأت أوروبا وأمريكا بأول المؤامرات على الانتصار، وبأول طوْق "نجاة" يُرمى لمن كادت تغرقهم أمواج الانتفاضات وصواريخ المقاومة، أو لمن وجدوا أنفسهم على قارعة الطريق يلهثون. كيف؟ صدرت تصريحات من مسؤولين أو مقربين منهم تقول ما معناه "يجب التهدئة العامة، والعودة إلى الهدوء، وليس تثبيت وقف إطلاق النار فقط".
"يجب التركيز على إعادة بناء ما تهدم من قطاع غزة بعيداً من حماس (ويقصدون الجهاد وكل فصائل المقاومة، أو قل كل الغرفة المشتركة)، وبوساطة السلطة في رام الله".. "يجب العودة إلى مفاوضات السلام، وحلّ الدولتين، والاتصال بحماس من خلال طرف ثالث، أو أطراف ثالثة"، وذلك بقصد جسّ النبض إن كان الترويض ممكناً، كما حدث مع فتح، وإن كانت فتح سبقت إلى استدعاء طرف ثالث أو أطراف ثالثة، ولم تكن بحاجة إلى ترويض.
فالسؤال: كيف يجب أن يكون الرد وحتى من قيادة فتح قبل غيرها، وحتى من الطرف الثالث أو الأطراف الثالثة أيضاً؟ وبالمناسبة يجب أن يتذكر كل من يخاطبون، وقبل الرد، أن في ظهرهم اليوم انتصاراً، وفي ظهرهم انتفاضات وحرباً وشعباً موحداً، وأن في ظهرهم رأياً عاماً عالمياً حتى داخل أمريكا وأوروبا. ولا حاجة إلى الإشارة إلى الشعوب العربية والإسلامية، ومحور المقاومة؛ لأن بعض الأطراف قد يُستفز من هذه الإشارة.
المهم، الرد المطلوب واجب وليس اقتراحاً. نعم يجب أن يُقال لهم: "ما لكم أيها السادة: الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، تكررون المكرر، وتريدون أن يُجَرَّب المُجرَّب؟".
أولاً، إن تهدئة سادت عشرات السنين، ثانياً، جرت مفاوضات سلام، وعروض سلام، من قبل اتفاق أوسلو وبعده، ولعشرات السنين، فكانت النتيجة، وبإشرافكم وتعهدكم، ما وصل إليه الوضع الآن: تمريغ كل المفاوضات والعروض وقرارات هيئة الأمم واتفاق أوسلو (وحتى الاتفاق الأمني) بالوحول، ومن خلال سياسات وممارسات "إسرائيلية" معلنة. وبعضكم لم يستطع إلاّ أن يتحفظ عليها، أو لا يعلن موافقته عليها، ولكنكم جميعاً تركتموها تمر، وتصل إلى ما وصلت إليه من استيطان في الضفة الغربية ومن تهويد للقدس، ومن اعتداءات على المقدسات المسيحية والإسلامية وخاصة المسجد الأقصى. هذا وليس "تركتموها تمر" فحسب، وإنما أيضاً لم يتوقف دعمكم المادي والمالي والعسكري للكيان الصهيوني، ولم يتوقف حتى تأييدكم لارتكاباته العسكرية حتى في الحرب الأخيرة، تحت شعار "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".
حقاً كيف تتجرأون بعد كل هذه الحقائق والوقائع أن تعودوا إلى "أسطوانتكم المشروخة"، أو سياساتكم المضللة لمن يصدقكم وتريدون شلّه وتمييع مواقفه، فيما الكيان الصهيوني يذهب لجعل كل أرض فلسطين له، وتحت سيطرته، وما على من تبقى من الفلسطينيين إلاّ الرحيل، وبعض دولكم شجع على رحيل الفلسطينيين، خصوصاً، سكان القدس؟
من هنا يجب أن يرد على كل ما تطالبون به، بما في ذلك التهدئة العامة، وشروطكم لإعادة بناء ما تهدم في قطاع غزة، وقبل هذا وذاك، دعوتكم لمفاوضات سلام وحلّ الدولتين، باعتباره مرفوضاً، فهو مُكرر ومُجرَّب، ولا يمر إلاّ على عقل مُخرَّب.
لهذا على الشعب الفلسطيني، بكل فصائله، بما فيها فتح، وبكل شبابه وبوحدة وطنية، أن يرد على الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي برفض ما يطرحانه من سياسات، من جهة، أما من الجهة الأخرى فغزة ستعزز سلاحها ويُعاد تعميرها، ونحن موحدون وراء انتفاضة شاملة متواصلة لا تهدأ قبل انسحاب الاحتلال وتفكيك المستوطنات من القدس والضفة، وبلا قيدٍ أو شرط، ضمن خطوط اتفاقات الهدنة لعام 1948/1949.
هذا ولا نخفي أننا بعد إنجاز هذين المطلبين سنتمسك بأن "كل فلسطين لنا" و"التحرير الكامل"، عندئذ لكل حادث حديث (ولنا كلام كثير كيف يكون الحل العادل والنهائي). أما اليوم، فلا بد للاحتلال من أن يرحل وللاستيطان أن يُصفى، وهذا هو القانون الدولي، ويتماشى مع قرارات وقعتم عليها بأن الاحتلال غير شرعي والاستيطان غير شرعي.
بالمناسبة، جربوا هذه الدبلوماسية، وهذا الخط السياسي الصحيح والبسيط والواضح، وأمسكوا به بنفس طويل وعناد، ولا تقبلوا بمفاوضة عليه، ولا تسمحوا بإضافة عليه أو نقصان منه، لا دولة، ولا مؤتمرات، ولا موفدين. وعلى الجميع أن يختار: إما احتلال يجب أن يرحل، واستيطان يجب أن يُزال، وإما مقاومة وانتفاضة شعبية عامة ومستمرة، وإذا اقتضى عودٌ إلى القتال مع قطاع غزة، ولا خيار ثالثاً.
عندئذ ستجدون هذه الدبلوماسية وهذا الخط السياسي المقاوم ناجحين ومنتصرين بإذن الله.
وسوم: العدد 930