ما العمل بعد مواجهات رمضان- أيار؟
ثمة شبه إجماع بأن مواجهات رمضان (أيار/ مايو) بانتفاضاتها وبحرب سيف القدس، وما تحقق من إنجازات (تراجعات فُرضت على العدو)، أدخل الوضع الفلسطيني من حيث الصراع مع الكيان الصهيوني في مرحلة جديدة، مما يتطلب الانتقال بإدارته إلى مستوى يتوافق مع ما حدث من تغيّر في موازين القوى، ويرتفع إلى ما تقتضيه المرحلة الجديدة.
ليس هنالك ما هو أصعب على العقل الإنساني، عموماً، من أن يلتقط الجديد سلباً أو إيجاباً، التقاطاً صحيحاً، ويتحرر من تكرار ما طويت صفحته التي سادت في مراحل سابقة.
ما أن أُعلن عن وقف إطلاق النار حتى استعيدت موضوعات سادت في المرحلة السابقة، وفي مقدمها ضرورة ترتيب البيت الفلسطيني من خلال إعادة بناء منظمة التحرير، وتحت مظلتها. وسيُتهم كل من يُخالف ذلك بالكفر، أو إذا ما اعترض أحد عليه، ولم يعتبره واجب الوجوب والطريق الحتمي، كما ستفعل هذه المقالة. وذلك بوضع منظمة التحرير الفلسطينية جانباً، أو على الرف، والتفكير بوحدة وطنية تجيب عن السؤال: ما العمل في هذه المرحلة؟
الحجة هنا بسيطة وبدهية، ويجب أن تكون مقنعة، وإلاّ انطبق المثل "عنزة ولو طارت". كيف؟
منذ خمس عشرة سنة بُذلت محاولات متواصلة من قِبَل الفصائل وبمشاركة نُخب مستقلة كثيرة، وبعدة رعايات أو وسطاء، من أجل التوافق أو الاتفاق على وحدة وطنية في ظل منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف)، وإعادة بنائها، ولكنها فشلت المرة تلو الأخرى. وأثبتت التجربة أننا أمام حالة "فالج لا تعالج"، فإن موضوعة م.ت.ف، في ظاهرها، تبدو صحيحة وممكنة، ولكن عملياً وواقعياً شبيهة بسراب، مرآه شيء والحقيقة شيء آخر.
باختصار، محمود عباس وقيادة فتح لن يسمحا بإفلات م.ت.ف من قبضتهما، لا بالرضا والحوار، ولا بالانتخابات، ولا بالمحاصصة، بل لم يُبقيا غير استخدام القوة، أو الذهاب إلى تشكيل م.ت.ف بديلة. وهذان الخياران يؤديان إلى صراع فلسطيني- فلسطيني، لا تحمد عقباه، مما يجعل محاولة إيقاظ م.ت.ف لإعادة بنائها شبيهاً بإيقاظ الفتنة، يُفضل إبقاؤها نائمة على إيقاظها.
والحجة الثانية، البسيطة والبدهية والمقنعة، جاءت بها المواجهات الأخيرة: الانتفاضات وسيف القدس، ووحدة الشعب الفلسطيني، ووحدة مواقف الفصائل بشبه إجماع في تأييدها والمشاركة فيها، ثم في تأكيد الجميع على عظمتها ونجاحها وإنجازاتها. فهي التي يمكن اتخاذها دليلاً على ما يجب عمله.
لهذا يجب أن نلحظ بأنها انطلقت وتمكنت وانتصرت والبيت الفلسطيني "مكركب"، وم.ت.ف في نوم عميق، وخارج الفعل. وقد تم ذلك من دون وحدة وطنية في ظل م.ت.ف، ومن دون انتخابات، ومن دون إعادة بناء م.ت.ف، ومن دون قيادة موحدة (عدا قطاع غزة)، وفي أثناء الانتفاضات التي واجهت العدو كانت عدة قيادات ميدانية.
من هنا فإن الإجابة عن السؤال ما العمل في المرحلة الراهنة يجب أن ترتكز على دروس التجربة الأخيرة (انتفاضة فلسطين، وسيف القدس). وبهذا يجب أن نواصل المواجهات، ونبدأ بما انتهينا إليه، وفي اتجاهه.
إن وقف إطلاق النار لم ينهِ المواجهات، ولم ينتقل إلى مرحلة هدنة طويلة أو قصيرة. فالعدو من جانبه لم يبتلع هزيمته بعد، وقد راح يومياً يواصل الاستفزاز والاعتداءات والاقتحامات والاعتقالات وحصار قطاع غزة، وترك مستوطنيه يحاولون، بحماية الجيش والقوات الأمنية، استعادة ما خسروه، ولامتلاك زمام المبادرة.
وفي المقابل، ما زالت مواجهة الشعب الفلسطيني مستمرة هنا وهناك، وبرزت مواجهات بيتا الرائعة، واستمرار تحدي أهالي الشيخ جراح للمستوطنين، والحشد في المسجد الأقصى، والرد على مواصلة الحصار في قطاع غزة. فالإصبع ما تزال على الزناد، فيما أخذت الطائرات الورقية من حاملات اللهب تفعل فعلها.
وهذا يعني أن الجواب الأول عن السؤال ما العمل يتجسّد الآن في الاستمرار بمواجهة استفزازات العدو واقتحاماته واعتداءاته واعتقالاته، إذ يجب أن لا نسمح لأنفسنا بالذهاب إلى التهدئة فيما العدو يستعد لالتقاط أنفاسه لشنّ الهجوم العام، ومواصلة حصار قطاع غزة.
أما من الجهة الأخرى، فإن المرحلة الجديدة تنطلق من موازين قوى دولية وإقليمية وداخلية صهيونية في غير مصلحة الكيان الصهيوني. فالسياسات الأمريكية والأوروبية الرسمية، بالرغم من استمرارها في دعم الكيان الصهيوني، إلاّ أنها مرتبكة، ولا تملك سياسة متماسكة لما يجب عمله فلسطينياً في المرحلة الراهنة. والوضع الرسمي العربي التطبيعي المعادي للقضية الفلسطينية، تلقى ضربة على "يافوخه" في المواجهات الأخيرة، وفي هزيمة نتنياهو، فيما محور المقاومة زاد قوة ومنعة، وتعمق التناقض التركي مع الكيان الصهيوني، ناهيك عما حدث من تطور إيجابي في الرأي العام العالمي في مصلحة فلسطين، وضد الكيان الصهيوني، كما ناهيك عما عبرت عنه الجماهير العربية والإسلامية من عودة إلى الأصالة في الموقف من القضية الفلسطينية.
وهذا يفترض في الإجابة عن "ما العمل" أن ينتقل الوضع الفلسطيني إلى الهجوم لدحر الاحتلال والاستيطان واستنقاذ الضفة الغربية والقدس والمسجد الأقصى وجميع المقدسات المسيحية والإسلامية. وهذا يتطلب تشكيل جبهة متحدة ميدانية لمواصلة المواجهات وتدعيم قاعدة المقاومة الجبارة في قطاع غزة، أيضاً لدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات بلا قيد أو شرط. وذلك تهيئة لمواصلة الإعداد لتحرير فلسطين كل فلسطين، وهو الهدف الذي أعادت "انتفاضة فلسطين"، من الجليل حتى أم الرشراش، الإشارة إليه وإحياءه، ولا سيما في شوارع اللد وحيفا وعكا.
بمعنى آخر العمل على تحقيق وحدة وطنية فلسطينية في ميدان المواجهة، وفي أتون المواجهة، بعيداً من الصراعات حول إعادة بناء م.ت.ف، أو التمثيل والانتخابات، أو "الشرعية"، تماماً كما حدث في انتفاضة فلسطين وسيف القدس. وهو المجال الذي يسمح لحركة فتح أن تدخل فيه وتصبح جزءاً منه، أو تقف على قارعة الطريق، وفقاً لسياسات محمود عباس. وهنا أيضاً ثمة عبرة من عِبَر انتفاضة فلسطين وسيف القدس.
أما إذا تعذر لأي سبب من الأسباب أن تتشكل قيادة على أساس جبهة متحدة ميدانية، فنموذج القيادة الموحدة القائمة في غرفة العمليات ووحدة الفصائل في قطاع غزة، يمكن أن يكون النواة القيادية للجبهة الميدانية، ويصار إلى توسيعها لتشمل كل من يواصل المواجهة.
طبعاً الخيار الأول، في تشكيل الجبهة هو الأفضل، لأنه يشمل الثاني. ولكن الثاني تقدم عليه في تجربة مواجهات رمضان (أيار/ مايو)، إذ أثبَت جدارته في قرار توسيع قواعد الاشتباك لتشمل القدس والمسجد الأقصى.
وسوم: العدد 935