المبشرون بدخول التاريخ في تركيا!
لم أتمكن من إحصاء القنوات التلفزيونية التي تبث من القاهرة، تدافع عن نظام الحكم، وتصنع له في كل ليلة زفة و”حلقة ذكر”، وترش بالنار من يرشه بالماء، لكني قرأت لأحد المارة أنها تتجاوز المئة قناة، تقع جميعها تحت الاشراف المباشر لمن ينوب عن المالك الحقيقي، والذي يديرها بواسطة جهاز سامسونغ؛ خالد الذكر وذائع الصيت. بيد أن العدد في الليمون!
ففي الأسبوع الماضي تم تذكيرنا بأن كل هذه المحطات التلفزيونية ما ظهر منها وما بطن، هي كأبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأتي بخير، فقنوات تركيا على ضعفها وهوانها وقلة مواردها أزعجت السلطة، إلى درجة أنها البند الأول في المحادثات بين القاهرة وأنقرة، وتريدها الأخيرة البند الأول والأخير، بينما تقر الأولى بأنها البند الأول، وتضيف له بندين آخرين؛ الثاني، انسحاب القوات الليبية من ليبيا، والثالث، تسليم عدد من المطلوبين لتحقيق نصر زائف، كالذي حققه استلامهم للضابط السابق هشام عشماوي، وكان هبوط الطائرة المصرية به في مطار القاهرة الجوي، لحظة أرادوها تاريخية، وتم استدعاء مذيع ضعيف الإمكانيات، يفتقد لقوة الصوت، ليجري حواراً مع المجلوب من ليبيا، لكن فشلت المهمة، ليس فقط لأنه مذيع غير محترف، ولكن أيضاً لأن عشماوي لم يرد عليه، وكانت الخطة تقوم على أن القوات المصرية هي التي اصطادته هناك، مع أن الجميع يعلمون أنه انجاز ليبي خالص. وعموما فقد تم تعويض الفشل في المهمة، بمسلسل تلفزيوني!
وفي يوم الخميس الماضي أعيد التذكير بقوة قنوات تركيا، وقد طلب جهاز التعبئة والاحصاء من جحا أن يعد غنمه، فقال باستهانة: واحدة نائمة وواحدة قائمة، وإذا كانت الحسابات الحقيقية أنها ثلاث قنوات، فقد تم الإعلان عن أن الأزمة في قناتين فقط، هما “مكملين” و”الشرق”، وقد سقطت قناة الإخوان المسلمين من حسابات القوم في القاهرة، بل تبين أن التأثير الذي دك الحصون، ولم تفلح الترسانة الإعلامية في مجابهته، يدور حول أربعة برامج لا أكثر ولا أقل!
وإذا كان التنبيه في المرة السابقة بالتزام سياسة إعلامية، لا تستهدف عبد الفتاح السيسي وسياساته وأركان حكمه، فإن الجديد هو منع أربعة من مقدمي البرامج من الظهور، هم: حمزة زوبع، ومحمد ناصر (من مكملين)، ومعتز مطر، وهشام عبد الله (من الشرق)، وإذا كان مطر قد توقف منذ المرة الأولى عن الظهور التلفزيوني واكتفى بالإعلام الجديد وعبر قناته على “اليوتيوب”، فإن المنع لم يقتصر على الشاشة الصغيرة، وانما امتد إلى الشاشة الأصغر، بل وعموم منصات التواصل الاجتماعي!
وهو أمر كاشف عن قوة تأثير هذه البرامج، وقد أثبتناه هنا من قبل، لكن بهذا التحديد فإن التأكيد على التأثير والأهمية جاء بمثابة اعتراف من القوم في القاهرة، عندما يجعلون من وقف هذه البرامج طلباً يناقش في مباحثات بين دولتين كبيرتين بحجم مصر وتركيا، والمدهش ألا يستشعر أهل الحكم في القاهرة الحرج، وهم يجعلون من هذا بنداً للنقاش، وكان الأولى بهم أن يتجاهلوا الأمر، لكن الصراخ على قدر الألم!
وقد كان هناك من معسكر هذه القنوات من يقلل من أهميتها ويستهين بقدرتها على التأثير، ويراها لا تقوم بعمل له قيمة، حسداً من عند أنفسهم، فقد أصابهم ما أصاب أخوة يوسف، لكن الدليل على قوة التأثير قدمته سلطة استولت على إعلام البلد، عامه وخاصه، بوضع اليد، ولديها محطات تلفزيونية بعدد نجوم السماء، وأجر المذيع الواحد فيها بميزانية قنوات تركيا، بما في ذلك القناة الوحيدة المملوكة للإخوان، والتي لم يرد لها ذكر في المباحثات بين القاهرة وأنقرة، ولم يُطلب منها وقف برنامج أو عزل مذيع!
ورغم أن منع اعلامي من الظهور، أو صحافي من الكتابة، يمثل في حد ذاته عقوبة، من غير ما يترتب عليه من أثار إلا أن ما حدث لا بد أن يشعر الأربعة بالفخر، لأنهم عندما يكونوا موضوعاً للنقاش بين المسؤولين في بلدين، فهذا وسام، وسينتقل بهم من مجرد اعلاميين يعملون في قنوات فقيرة إلى جزء من التاريخ، وعندما يأتي مؤرخ للكتابة عن العلاقات المصرية – التركية، أو باحث أكاديمي ليعد أطروحته عنها، لا يمكنه تجاوز أسماء هؤلاء الأربعة، سواء فشلت المصالحة أم نجحت، فقد ضمنوا لأسمائهم التخليد، ونحن نعمل في مهنة حضور من يعمل فيها وقتي، ومرتبط بحياته، وقد مر على الصحافة والإعلام في مصر، من كانوا ملء السمع والبصر وهم على قيد الحياة، لكن الأجيال التي لم تعاصرهم قد لا تعرف أسماءهم، فضلاً عن ما قدموه.
ترفع الأتراك
واللافت أن النظام التركي لم يضع شرطاً مقابل شرط، فيطلب تسريح أربعة من مقدمي البرامج في القنوات المصرية مقابل أربعة، أو أن يضع بنداً في مواجهة بند، والإعلام الموجه في القاهرة قال في أردوغان ما قال مالك في الخمر، وبأسلوب الردح وفرش الملاية، (أنظر إلى أداء عبلة كامل في خالتي فرنسا لتعرف ما نقصده)، ولو اهتم لأمكنه احراج النظام العسكري، وإذا كانت “مكملين” و”الشرق” قنوات غير تركية تبث من إسطنبول، مما يضعف الموقف في المباحثات، فإن قناتي “أم بي سي مصر” التي يعمل فيها عمرو أديب، وقناة “تن” التي يمارس الملكية عليها نشأت الديهي، ويقدم في الوقت ذاته برنامجاً يومياً عبرها، غير مصريتين، الأولى مملوكة للمملكة العربية السعودية، والثانية مملوكة لدولة الإمارات العربية المتحدة، وهذا معلن ومنشور!
وبطبيعة الحال لم يكن للنظام التركي أن يضع العقدة في المنشار، فيهبط لمستوى أن يتحدث عن مذيع سبه، وآخر طعن في عرضه، وفي مباحثات كبيرة، وأيضاً لانعدام تأثير هذه القنوات على المواطن التركي، على العكس من هؤلاء الأربعة المبشرين بدخول التاريخ، والذين وصل تأثيرهم حد أن يستدعي عبد الفتاح السيسي قوات الاحتياط، ومن لميس الحديدي، إلى إبراهيم عيسى، في مهمة شغل المشاهد بعيداً عن هذه القنوات، لكن قواته فشلت، فكانت قنوات تركيا بنداً في المباحثات بين البلدين.
ولا أعرف لماذا يشعر اعلاميون مصريون بالسعادة لهذا القرار التركي، بوقف الإعلاميين الأربعة، ومستقبلهم مرتبط وجوداً وعدماً بهم، وقد تحدث المصالحة، (والتي ستكون هشة طال الزمن أم قصر)، فتغلق هذه القنوات بالضبة والمفتاح، وبالتالي فلا معنى لاستمرار قوات الاحتياط في الميدان وعلى الشاشات!
ومهما يكن فقد علمتنا التجارب، أنها عندما تشتد العتمة، تكون مقدمة لطلوع الفجر، وعندما قامت الثورة في مصر، كان نظام مبارك قد أمم الحياة السياسية، ومارس تعسفه حتى على وسائل الإعلام الأجنبية، ولم تكن هناك “مكملين” أو “الشرق”، وفي اليوم الأول للثورة كان ترتيب خبرها الثالث في نشرة “الجزيرة” ، ومع ذلك نجحت. لعله خير
أرض – جو
بشرهم السيسي بقناة إخبارية على مستوى عالمي، ودفعت الإمارات نفقاتها مقدماً، وفشلت التجربة، الآن أعادت الشركة التي تستحوذ على الإعلام في مصر، التبشير من جديد بقناة إخبارية قوية. فليوفروا أموالهم (أو أموال الإمارات) لأن نجاح الإعلام ليس بتوافر الإمكانيات المالية، وأفضل استوديوهات، وأجمل المذيعات، ولكن لا بد من سقف للحرية مرتفع، مع الاستعانة بكوادر مهنية على مستوى رفيع، فكيف لمهني أن يديره عسكري “بصمجي” ربما آخر مطبوعة قرأها في حياته هي مجلة “ميكي ماوس”؟!
قالوا إن إبراهيم عيسى أُستدعي من التاريخ، الذي يهرب اليه في زمن القمع، ليهاجم وزير النقل الجنرال كامل الوزير. فقلت إنه خطاب لا يقرأ بظاهر النص، فقد تمدد الجنرال الوزير في المشهد، وربما يؤثر هذا على مكانة الجنرال الرئيس، فجاء عيسى من كتب التراث إلى كتاب المطالعة والمقرر الدراسي، لمهمة محددة، حتى لا يغطي جنرال على جنرال.
وسوم: العدد 935