دعوي أو سياسي؟؟!! لا عنب الشام ولا بلح اليمن

أسمع كثيرين حين يتحدثون عن العمل الإسلامي المعاصر، منطلقاته واستراتيجياته ومآلاته، ووسائله وخطابه، يكثرون من الحديث عن " الدعوي والسياسي" وتغول الثاني على الأول، وضرورة أن تراجع الحركات الإسلامية رؤيتها، وطريقتها، وتخفف قليلا من اندفاعها في طريق السياسي، والالتفات بعض الشيء أو كله إلى العمل الدعوي وترك السياسة لأهلها " الفجار" هكذا يقولون والعهدة في اللفظ الأخير عليهم ...

في الحقيقة ومن خلال معايشة وممارسة عمرها أكثر من نصف قرن أستطيع أن أشهد وربما تكون شهادتي على نفسي نوعا من الإقرار، أستطيع أن أشهد على الحركات الإسلامية بالنسبة للتنظيمات والجماهير أنها في سوقي الدعوة والسياسة، لا عنب الشام ولا بلح اليمن... نزعوا عن الناس الرداء والثوب والإزار والجورب أيضا، وصار حال الناس كمن قال:

ألقى المزادة كي يخفف رحله ...والرمح ، حتى نعله ألقاها

أو قول أبي الطيب :

 وضاقت عليهم الأرض حتى صار هاربهم ...لو رأى غير شيء ظنه رجلا

وكم ضيق النقاد عليه في قوله " غير شيء" وهي حشو اللوزينج فيما قال!!

أحد عشر عاما من عمر الثورة في سورية، وادخل في فضاء الدعاة السوريين، وأقصد من يحملون سمة العلم الشرعي منهم، فأجدهم على ثلاثة محاور أساسية يتمحورون

محور الصامتين المحوقلين المسترجعين الذين لا تحس منهم أحدا ولا تسمع لهم ركزا ..وصارت سنة الناس في مجالسهم إذا عطس عاطسهم أن يبادله التشميت تحية باليد، تخفيفا للعبء على الكرام الكاتبين.

ومحور ثان

لأناس نشطوا لإعادة الفتح المعارك التاريخية في مجاليها الفقهي والكلامي والسياسي، ونشطوا على مجموعات الواتس ،وفضاءات لسوشيال ميديا، وعلى موجات أثير الزوم ؛ يبدئون ويعيدون، وكل واحد منهم يظن أنه قادر على حسم خلافات لم تحسم منذ أبي حنيفة وأحمد أو منذ أحمد والأشعري والمعتزلة ..وكيف خدع عمرو أبا موسى، وكأن أبا موسى كان ألعوبة وحاشاه..

ومحور ثالث أعجبهم منهج القرافي في كتابه "الفروق". وكان الفصل الأول فيه مثلا " الفرق بين الرواية والشهادة " فهم حريصون جهدهم أن يميزوا شريعة الإسلام على قواعد القرافي بحيت لا تتقاطع لا مع دار ابن جدعان، ولا مع مقاربة من مقاربات ما بقي من أمر الفطرة في ضمير الإنسان ...

يحصل كل ذلك، ويتشاغل هؤلاء الناس بكل ذلك، والدماء تسفك، والأعراض تنتهك، وا لعجز عن النصرة عذر، والتقاعس عن البيان حكمة، واللواذ بالصمت وليجة، حتى يخيل لمتكلم حين يتكلم أنه أزعج بكلماته الهاجعين...

في قراءة عن سيكلوجية الأطفال يقول أحد التربيين : اجمع عشرة أطفال من بيئات مختلفة، ثم ألق بينهم كرة، ثم اتركهم أقل نصف ساعة، ستجدهم قد انتظموا في فريقين..وهكذا يبدو حال السوريين الطفولي البريء، وما زال عند وليد المعلم كرات كثيرة يشغلنا بها وعلى كل الجبهات.

وعلى مستوى السياسة الذي يكثر التخبط في سياقاتها المتخبطون، تدرك من المتابعة اليومية لأداء بعض الفرقاء، وأحيانا أرصد والتمثيل للتوضيح، أرصد الناس في الوقت الواحد، والمسجد الواحد، ويزعمون أنهم يأتمون بإمام واحد، وأراهم رأي عين لا رأي قلب يصلون إلى الجهات الأصلية والفرعية الثمانية، ولو قلت: الست عشرة ما كنت مبالغا، وكل هذا لا هم يشعرون بالحرج ولا إمامهم الذي يأتمرون بأمره يشعر أنه يواجه مشكلة، وأن عليه أن يقول للناس استووووووووو.. أو توجهوا إلى الله بقلوبكم وأبصاركم ..

"كل في بيدائه" عنوان مسرحية للكاتبة البريطانية "دوريس ليسينغ" صورت فيها الفوضى الفكرية والاجتماعية والسلوكية لجيل أوربي خرج من الحرب العالمية الثانية...شخصيا عشت فترة في الغرب الفرنسي في ستينات القرن الماضي، وأنا ابن عشرين، وهي الفترة التي أرخت لها المسرحية، وأشهد أن حال المجتمعات الغربية اليوم أقوم قيلا مما كان عليه الحال في نصف قرن.

وأستطيع أن أشهد أن عنوان "كل في بيدائه" يصور حال المجتمع السوري اليوم، ولا أميز بين معارضة ولا موالاة، وأنا اكيد أن اجتماع الذين تجمعهم العصا خطير، وأن تفرق الذين يفرقهم حب الظهور وحب الفشخرة والشنفخة، والأثرة، والبنطلون أبو كسرة أخطر ...

وأشهد أن هذا التفرق في عموم المجتمع السوري كارثي، وهو في صفوف المعارضين أشد، ثم ثالثا وهي في صفوف التيار الإسلامي أكثر خطرا، الذين أصبحت مذاهبهم على عددهم، وكل واحد يرى نفسه أبا حنيفة أو الشافعي أو لعله ابن حزم الظاهري!!

ولعل أخطر من الأولين والثانين والثالثين ومن هؤلاء وأولئك وأولائيك هؤلاء الذين يزعمون أنهم منظمون، يجمعهم عهد، وقد توافقوا كما زعموا منذ سنين على مشروع تعاهدوا عليه، ثم عاهدوا عليه الناس .. وأتذكر التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ..

منذ حوالي ثلاثة عقود كنت ألح على بعض العقلاء المرجويين أن احذفوا من عهدكم عبارة تقول "وأن أقول الحق حيثما كنت لا تأخذني في الله لومة لائم"

أنا أعلم أن في صفوف المعارضة السورية تجمعات وتنظيمات منها ما يعد بالآلاف ومنها ما يعد بالمئين ..

ولكنني سأكون أشد غبطة وفرحا وأملا ورجاء وتفاؤلا وإشراقا إذا ضمن لي أحد أن يجمع مائة سوري على رؤية وخطة بالمجمل، دون دخول بالتفاصيل...

تقبل الله الشهداء ، وفرّج عن المعتقلين، وأعان العاثرين والمفجوعين... اللهم آجرنا في مصيبتنا واخلفنا في أعمارنا خيرا ... وإنا لله وإنا إليه راجعون..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 953