قنوات تركيا… والحرب الإعلامية المقبلة!
«الفهلوة» المعروفة منا معشر المصريين بالضرورة، (بمعناها الإيجابي لا السلبي) هي التي دفعتني لقضاء الأسبوع الفائت في متابعة قناة «تي آر تي» الناطقة باللغة التركية، مع أن حصيلتي من هذه اللغة لا تتجاوز كلمة «أركادش» بمعنى «صديق»!
ويستمد المصريون ثقافتهم العامة باللغة التركية، من مسلسل قديم عرضه التلفزيون المصري في السبعينيات هو «مارد الجبل» بطولة نور الشريف، وعندما قدم الرهط لإسطنبول بعد الانقلاب، ظنوا أنهم في بلدهم الثاني، ومن ثم استدعوا المفردات التي وردت في هذا المسلسل، والتي جاءت على لسان من مثلوا الدولة العثمانية فيه، وكانت فجيعتهم أن هذه الكلمات على قلتها ليست صحيحة، فلا يوجد في التركية «تشكرات» أو «أمان ربي أمان» ولا نعرف من أين جاءت مؤلفة العمل سنية قراعة بهذه المفردات غير الصحيحة!
«تي آر تي» هي شبكة تلفزيونية حكومية، وتنتمي لها «تي آر تي» عربي، لكن من يطالع النسخة التركية من الشبكة، وبدون فهمه للغة، يقف على أنها قناة تتسم بالحيوية، كما تتسم كذلك بجودة الصورة، وجاذبية الشكل، واتساع الأستوديو، وكل ما تسعى اليه القنوات العربية من التطوير، ستجده في هذه القناة، ويقولون إن الحكومة التركية لا تبخل بالمال على الإعلام، الذي تؤمن بأهميته ودوره، وكانت أزمة الإخوان أنهم لا يؤمنون بهذا الدور، ما دامت لديهم القدرة على التواصل المباشر مع الجماهير، وعند حدوث أزمة التمويل لجريدة الجماعة في مصر قبل الثورة، كان الرد من قبل مكتب الإرشاد إننا لسنا بحاجة إلى صحيفة تمثل عبئاً علينا، والإعلام يتوافد على مقر الجماعة، ما بين أجنبي ومحلي، واستمرت هذه النظرة حتى بعد الثورة والحكم، وإذا عرض أحد رجال الأعمال الكبار، على القوم عبر وسيط، أن يطلق بمساعدة رجال أعمال آخرين قناة تعبر عن المرحلة، فشكروه على ذلك وقالوا إنهم لا حاجة للقناة، لكن بعد أن احتشدت المحطات التلفزيونية للنيل من الحكم الإخواني وتشويهه، كان من طلب احياء الفكرة هذه المرة هم الإخوان أنفسهم، لكن الرد جاء بأنه لا قدرة لقناة وليدة على مجابهة هذا القصف، كما أن الإمكانيات التي كانت مقررة لها، تعد الآن نقطة في بحر التمويل الإقليمي للمحطات التلفزيونية المعادية!
ربما كانت هذه الحيوية التي تتمتع بها «تي آر تي» الناطقة باللغة التركية، هي التأثر بالإعلام الغربي، في حين أن حاجز اللغة، فشل في تحقيق نجاح يُذكر في تجربة قناتهم الناطقة باللغة العربية، ومن المدهش أنه مع تغيير القيادات، فإن الأداء محلك سر، وذلك في وقت فيه تعطش عربي للتواصل مع تركيا، والوقوف على تجربتها في السياسة والسياحة والحياة، وقد أصبحت مزاراً لعرب كثيرين لا يأتون فقط من البلدان العربية ولكن من بلاد المهجر، إما سياحاً أو مقيمين، ما بين مستهلكين ومستثمرين، ويمكن أن تقف على هذا الشغف من خلال الوقوف على أن ما يكتب في المواقع الإلكترونية عن تركيا هو غالباً الأعلى قراءة، الأمر الذي كان سبباً في أن تسيطر علي في وقت من الأوقات فكرة إطلاق صحيفة الكترونية تحمل اسم «البسفور» وهو اسم لصحيفة كانت تصدرها دولة الخلافة في القاهرة، وقد عرضت الفكرة على إحدى المؤسسات الإعلامية لتنفيذها من دوني!
الأمريكي الغشيم:
ولا يمكن مقارنة «تي آر تي» عربي، بتجارب تفتقد للرسالة الإعلامية، أو صاحبة رسالة ملتبسة، مثل القنوات التي تبث من عواصم غربية، ومن «فرانس 24» إلى «الحرة» مروراً بالألمانية و»روسيا اليوم» لأن المفروض أن تركيا لديها رسالة، وأن هذه الرسالة واضحة، وليست مثل «الحرة» مثلاً، التي تسعى لاستفزاز المشاهد باحتواء خطاباً اسلامياً، تراه الأغلبية العظمى معادياً للدين، ونرى الاحتفاء جلياً بتعاقب الإدارات على القناة وبقاء إبراهيم عيسى، فعندما جاءت الإدارة الحالية واستغنت عن خدماته، سرعان ما أعادته مرة أخرى، غير مكترثة بأن الهدف لن يتحقق ما دام استفزاز الجماهير مستمراً، فنحن أمام الغشم الأمريكي الذي تخلى عن سياسة الرسائل الناعمة، ودس السم في العسل، وقد فشلت سياسة الأمريكي الغشيم في الحرب وفي الاعلام!
تركيا ليست بلداً، بل أمة، ولهذا اهتم بها الإعلام الموجه، لتكون لـ»سي إن إن» و»فوكس نيوز» قناتين باللغة التركية!
وفي الأسبوع الفائت ذهبت إلى «سي إن إن» التركية فوجدت مراسلتها تقف على الجبهة، وهي تنقل للمشاهدين خبراً من على خط النار، كانت تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة، وعلمت أنها لم تكن الحرب، فقط خبراً تافهاً عن اعتداء متبادل بين مواطن وآخر في كراج للسيارات، ومن سوء حظ المعتدي أن الكاميرا التقطت صورة له، لكن من الواضح أنها أزمة الوصول للمشاهد التركي، بدون تفكير جاد في الأمر، وربما وقعت إدارة القناة ضحية لاجتهادات صحافيين أتراك يعملون بها، تصور لهم هذه «الفهلوة» بمعناها السلبي، أنه بمثل هذه الأخبار يمكن الوصول للمشاهد المعني، تماماً مثل أزمة «تي آر تي» عربي!
«الجزيرة مباشر مصر» كانت صاحبة الرسالة النموذج في الوصول للمشاهد المصري، لتصبح هي المحطة الأولى لدى المصريين ، ولا أعني هنا مرحلة ما بعد الانقلاب العسكري، لعدم وجود منافس تقريباً، لكن قبل ذلك كان تفوقها في وجود غابة من القنوات المصرية، لكن استغراقها في نقل الأحداث من المحافظة المصرية جعلها مثار اهتمام المشاهد المصري، وأدرك المجلس العسكري الحاكم هذه الحقيقة، فعمل على إغلاقها مرتين، بعد اشعال النار في مكتبها في ميدان التحرير، ولو تم اعتماد تجربتها من جانب «سي إن إن» ترك لتفوقت، بدون الحاجة إلى افتعال خبر حربي، يتمثل في اعتداء مواطن على مواطن، وانتفاخ عروق المراسلة وهي تنقل الحدث!
الحرب المقبلة:
ومع هذا، فأعتقد أن القنوات الغربية الموجهة ستكون حرباً في مقبل الأيام على الرئيس التركي أردوغان، بهدف إسقاطه في الانتخابات التي ستجرى في سنة 2023، وقد كانت الإمارات تخطط لإطلاق قناة تركية لهذا الهدف لكنها تراجعت وقررت تغيير إستراتيجيتها في وقت لاحق بأن تكون الحرب باللغة العربية وعبر قناة «تن» التي تبث إرسالها من القاهرة بعد ما اشترت الإمارات «الترام» والخبير الكبير في الشأن التركي «نشأت الديهي» المالك الصوري لـ»تن»!
وانشغال المخابرات الإماراتية باختراق الهواتف، والتقاط المكالمات الخاصة للخصوم، كان على حساب الأمور الأكثر أهمية، فأمكن للمذكور إدخال الغش والتدليس على أولي الأمر منهم من كونه كان مذيعاً في «تي آر تي» عربي، وأنه كان يعمل في تركيا، الأمر الذي مكّنه من أن يكون خبيراً في الشأن التركي!
لا تعطي القيادة التركية اهتماماً بالقنوات التي تستهدفها وتنطق بغير اللغة التركية، لكن أهمية رسالة القنوات الناطقة بالعربية أنها تعمل على حصار النموذج التركي، فلا يكون حلم الشعوب العربية أن تكون بلادهم هي تركيا، ولابد من أن يكون البديل الحاضر هو الخراب، في بلدان أرادت الشعوب فيها التغيير، وبهذا الحصار وهذه الصورة يكون البديل المناسب هو الحاكم الضرورة، بيد أن العمل من أجل المصالحة بين الإمارات وتركيا، أوقف مهمة «تن» وإن لم يغلقها، لأن المصالحة نفسها ستظل تراوح مكانها، انتظاراً لما ستسفر عنه نتائج الانتخابات في 2023، لأن القلوب في القاهرة وأبو ظبي ليست صافية!
وإلى أن تصفى القلوب التي في الصدور، يظل السؤال المهم حول سر خمول القناة التركية الناطقة باللغة العربية مع حيوية القناة التركية؟!
إنه من الأسئلة الوجودية في هذا العصر.
وسوم: العدد 956