هود الشرق واليهود العرب

فيلم «زيارة» لسيمون بيتون، كان علامة مضيئة في تظاهرة «يهود الشرق»، التي ينظمها معهد العالم العربي، في باريس.

تأتي هذا التظاهرة وسط احتفالية كبرى بعنوان «ارابوفوليز»، التي تجمع فرقاً موسيقية شبابية، ومجموعة ندوات بعنوان «أيام التاريخ»، تناقش مواضيع شتى.

يبدو المشهد غرائبياً، لماذا مثلاً تم ضم مغنية إسرائيلية- مغربية، إلى البرنامج الموسيقي، هل لأنها تغني بلغتها الأم وتشعر بالغربة في إسرائيل؟ ولماذا لم يجر إيضاح هذه المسألة، ألا تستحق نيتا القايم عرضاً خاصاً بها، بدلاً من أن يقوم منظمو الاحتفالية بتهريبها وسط ضجيج الفرق الموسيقية الشبابية العربية.

لكن المسألة ليست هنا.

السؤال هو حول يهود الشرق، وخصوصاً اليهود العرب، وحول تاريخهم ومآسي تهجيرهم وطردهم من بلادهم، إلى درجة دفعت الروائي الراحل شمعون بلاص إلى التصريح في ندوة عقدها في جامعة نيويورك عام 2004 بأنه كاتب عراقي يشعر بأنه منفي في إسرائيل وفي اللغة العبرية التي ليست لغته الأم.

إن قراءة برنامج هذه الاحتفالية يثير العجب، أين اليهود العرب؟ وما هي حكايتهم؟

من المستغرب أن يقام هذا المعرض في غياب الأكاديمية والكاتبة العراقية- الإسرائيلية ايلّا شوحط، التي كانت أول من طرح هذا النوع من الأسئلة.

صحيح أن أسئلتها كلفتها مغادرة إسرائيل والإقامة في نيويورك حيث تدرّس في الجامعة، لكنها أكسبتها في المقابل شرف الثقافة التي لا تخدم سوى الحقيقة والضمير. وأين الأكاديمي والكاتب والمترجم يهودا شنهاف، الذي كتب كتاباً متميزاً عن اليهود العرب؟

هل جرى إغفال هذين الاسمين لأنهما معاديان للصهيونية، ومؤيدان قضية الحق في فلسطين؟

الأسئلة تتوالى، هل يمكن أن يقام معرض تكريمي لليهود العرب من دون الإشارة إلى أعمال بلاص، وسمير النقاش، وادمون عمران المالح، وإبراهيم السرفاتي؟

لماذا نُسي أميل الكلاي، وتم تجاهل نعيم قطان وسليم نصيب وسامي شطريت، وحتى سامي ميخائيل؟ من هي النخبة الثقافية لليهود العرب إذا لم تتصدرها هذه الأسماء؟

لا يتسع المجال للكلام عن هؤلاء واحداً واحداً، فأنا مدين لهم، لشفافيتهم وثقافتهم وذوقهم بالكثير، إنهم يشكلون في آلامهم مرآة للألم الفلسطيني.

ما يجب التوكيد عليه هو أن مأساة اليهود العرب هي الوجه الآخر للنكبة الفلسطينية، فمثلما طُرد الفلسطينيون من أرضهم في عملية تطهير عرقي وحشية عام 1948، طُرد اليهود العرب في عملية هي مزيج من الإرهاب والبيع والشراء، بحيث وجدوا أنفسهم أمام خيار من لا خيار له.

الأنظمة العربية باعتهم بالمال للصهيونية، وإسرائيل اشترتهم كي تملأ بهم أرض فلسطين بعد نضوب الهجرة اليهودية بعيد تأسيس الدولة. أقاموا في «المعبروت»، التي تشبه مخيمات اللاجئين، وتم توزيعهم في الأماكن النائية ومدن «التطوير». المؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف، روى في كتابه «الإسرائيليون الأوائل» عن يهود اليمن الذين أرسلوا لتجفيف بحيرة الحولة، ومات الكثيرون منهم بالملاريا، وسُرق منهم أطفالهم الرُضع كي يباعوا لليهود الأشكيناز.

الحكاية يجب أن تُروى، إسرائيل تسعى لمحو ذاكرة اليهود العرب، مثلما سعت لمحو ذاكرة الفلسطينيين. فالدولة الصهيونية هي ممحاة كبرى للحقيقة، ومهمة الثقافة هي إزالة طبقات التزوير من أجل أن لا يضيع الألم الإنساني وسط الاحتفال الإسرائيلي المستمر منذ سبعة عقود بالعنصرية والكذب.

هذه الحقائق غابت في المعرض الذي ضم مئتين وثمانين عملاً، جُلبت من العالم بأسره. لكن ما نفع ذاكرة الأشياء إذا غابت عنها ذاكرة البشر؟

وكي أكون منصفاً، فإن فيلم المخرج العراقي سمير: «انسَ بغداد» يستحق أن يشاهد، لأنه نجح في جمع أسماء أدبية يهودية عراقية لامعة، ومن بينها سمير النقاش الذي ولد في العراق عام 1938 ومات في بتاح تكفا عام 2004، والذي أصرّ حتى وفاته على الكتابة بعربية مدهشة أدخل إليها لهجة يهود بغداد.

كان من الممكن ابتلاع كل هذه الغيابات، ففي النهاية نحن في فرنسا عام 2021، ولسنا في فرنسا التي تعلمنا منها قيم الثورة الفرنسية وتتلمذنا على كبار مفكريها من سارتر إلى فوكو إلى ألتوسير إلى بارت إلى بورديو.

قلت إنه كان في الإمكان ابتلاع كل هذه الغيابات، والقول إن مهمة إحياء الثقافة العربية اليهودية هي مهمة المثقفين العرب، ونكتفي بإبداء ملاحظات جانبية، غير أن تصريحين لفتا الانتباه، الأول لرئيس معهد العالم العربي جاك لانغ، أعلن فيه ترحيبه بالاتفاق الأمني المغربي- الإسرائيلي ودعانا إلى التطبيع، والثاني هو للسيد دنيس شاربيت المؤرخ الفرنسي- الإسرائيلي وعضو اللجنة العلمية المنظمة لتظاهرة «يهود الشرق»، الذي أعلن فيه أن المعهد استعار قطعاً فنية من متحف إسرائيل ومعهد بن تسفي في القدس، لكنه كشف المستور حين قال «هذا المعرض هو الثمرة الأولى لاتفاقية أبراهام. وهذا يبدأ من خلال التطبيع، نحن لم نعد نخاف من إقامة معرض عن يهود الشرق. ولن تنطبق السماء على الأرض إذا أقمنا تعاوناً مع إسرائيل».

هذان التصريحان يدقان ناقوس الخطر، فعلى معهد العالم العربي أن يعرف أن الثقافة العربية ليست رهن إشارة أنظمة استبدادية، وأن المال الخليجي المخصص لتبييض صفحة إسرائيل، لن يستطيع تحويل الثقافة إلى سلعة في سوق التبعية والتطبيع.

قالت سيمون بيتون، في فيلمها، إن المغاربة المسلمين هم اليوم حراس الذاكرة اليهودية في المغرب، واليوم يجد المثقفون العرب أنفسهم في موقع البسطاء المغاربة الذين روى الفيلم حكاياتهم، بصفتهم حراس الذاكرتين اليهودية العربية والفلسطينية، أي حراس الحقيقة والحق.

وسوم: العدد 958