شطرنج بوتين: بيدق «سوريا الأنطاكية» ورخّ «أوكرانيا الفيتنامية»
قبل سنتين من التدخل العسكري الروسي في سوريا، وخلال لقاء جماهيري احتفالي بشخص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال الحملة الانتخابية، استمع سيّد الكرملين إلى أغنية مؤلفة خصيصاً للمناسبة، تقول: «يا سوريا، يا أختاه، أخوك الروسي سوف ينقذك!». قلّة فقط كانوا، يومذاك، يتوقعون أن تكون موسكو على أهبة التدخل المباشر، وأمّا على المستوى الدعائي لأجهزة الكرملين الاستخباراتية والإعلامية فقد كان التأهيب يجري على نحو منهجي مضطرد، وكانت بعض ركائزه المحورية على صلة مباشرة بالجوانب العاطفية التي تستحثّ كراهية «الغرب» وتآمره على الشعوب، والجوانب الروحية/ الدينية التي تعزف أوتار الصلات الأرثوذكسية مع سوريا الأنطاكية.
على سبيل المثال الصارخ، بالغ التعبير أيضاً، كان النائب في الدوما سيميون بغداساروف قد ذهب إلى هذا التأويل الأقصى للعلاقة بين روسيا وسوريا: «سوريا أرضنا، أرضنا المقدسة. الحضارة أتت إلينا من هناك تحديداً. لو لم توجد سوريا، ما كانت روسيا ستوجد. لا الإغريق ولا الله أعلم أيّ شعب أتى إلى روسيا من أنطاكيا». فكيف تكون الحال في طرائق الكرملين لحشد الالتفاف الشعبي الأعرض، صادقاً كان أم زائفاً أو مزيفاً، حول أوكرانيا؛ بما تعنيه الأخيرة من محمولات رمزية دينية وعرقية ولغوية وتاريخية وجغرافية، وبما تمثّله ضمن تراث العبور الروسي الكبير من القرم إلى ساحات مواجهات شتى، شرقاً وغرباً، أفضت وتفضي إلى قطبية كونية جديدة، وإلى حرب باردة طبقاً لمعطيات العقد الثاني من القرن الـ21.
وأولئك الذين يتعمدون إغفال الربط بين أوكرانيا وسوريا داخل شطرنج بوتين الراهن، بذريعة أنّ «السلام» الروسي – الأمريكي في سوريا يصلح نموذجاً لتبريد أكثر وليس لتسخين أشدّ؛ يتغافلون، في الآن ذاته، عن حقائق دامغة، ثقيلة الوزن والجدوى والمغزى، في حاجة بوتين الشعبوي إلى مادّة شعبوية دائمة تغذّي العطش الشعبوي الروسي إلى أحياء أمجاد الماضي، التي فيها تستوي أحلام القياصرة مع المنجزات السوفييتية؛ في ميادين السياسة الخارجية بادئ ذي بدء، ثمّ لاحقاً في ميادين تكنولوجيا السلاح والفضاء والقتال السيبرانية. وليس تفكيك (فكيف بتخريب أو تعطيل أو حتى إبطال!) العمارات الجيو – سياسية ما بعد سقوط جدار برلين وتحلّل المعسكر الشرقي تباعاً؛ سوى عتبة أولى، كبرى بالطبع وحاسمة، على طريق جرّ الولايات المتحدة والحلف الأطلسي و»الغرب» عموماً إلى طاولة تنازلات، غير جديرة عملياً بصفة المفاوضات.
وعلى رقعة الشطرنج التي يديرها بوتين، وبصفة أوضح وأدعى إلى استدراج المواجهة أو التوريط منذ الحرب في جورجيا سنة 2008، ثمة هذه النقلة في وجه البيت الأبيض والأطلسي معاً: إمّا أن تتقدموا، بعد ضمّ القرم تحديداً، نحو أوكرانيا بما يمكن أن يتخذ سريعاً صفة فييتنامية؛ وإمّا أن تلجأوا إلى الخيار الآخر شبه الوحيد، أي العقوبات الاقتصادية. التاريخ يقول إنّ نماذج العقوبات التي فُرضت على العراق وإيران وروسيا، في الأمثلة الأحدث، أوجعت بهذا القدر الشديد أو ذاك الواهي، لكنْ هيهات أنها قلبت سياسات كبرى رأساً على عقب، أو بدّلت نظاماً بنظام. وتلك، كما هو معروف، نقلة واجهها رئيسان أمريكيان من قبل، باراك أوباما ودونالد ترامب، ويواجهها الثالث جو بايدن اليوم؛ من دون أن تلاقيها واشنطن بأيّ خيارات رادعة غير تلك التي تتوعد بالمزيد من العقوبات.
وعلى رقعة الشطرنج إياها، وسواء اعتزم بوتين تصعيد بيدق بشار الأسد في سوريا أو تحريك رخّ انفصال دنباس في أوكرانيا، لا يلوح أنّ البيت الأبيض يقلّب أي خيار فييتنامي، خاصة بعد اكتفاء الأطلسي بالمساندة اللفظية ووضع عضوية أوكرانيا في الحلف على رفّ المهملات؛ الأمر الذي يعني أنّ مناخات الشدّ والجذب الراهنة بين الأطراف لن تتخذ وجهة الـ»كش ملك»، والبعض يذهب إلى درجة التفكّه الأبسط على المبدأ التالي: ألا يكفي أنهما يتبارزان كلامياً، في ساحات التهديد والوعيد و… حروب الطواحين!
وسوم: العدد 960